فصل: تفسير سورة الغاشية

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير جزء عــم **


 تفسير سورة الأعلى

{‏بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعَى فَجَعَلَهُ غُثَاء أَحْوَى سَنُقْرِؤُكَ فَلا تَنسَى إِلاَّ مَا شَاء اللَّهُ إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ وَمَا يَخْفَى وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرَى فَذَكِّرْ إِن نَّفَعَتِ الذِّكْرَى سَيَذَّكَّرُ مَن يَخْشَى وَيَتَجَنَّبُهَا الأَشْقَى الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرَى ثُمَّ لا يَمُوتُ فِيهَا وَلا يَحْيَى‏}‏‏.‏

البسملة سبق الكلام عليها، وإنها آية من كتاب الله مستقلة ليست من الفاتحة ولا من البقرة، ولا من آل عمران، ولا من أي سورة من القرآن، لكنها آية مستقلة تنزل في ابتداء كل سورة سوى سورة ‏(‏براءة‏)‏‏.‏ ‏{‏سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى‏}‏ الخطاب هنا للرسول صلى الله عليه وعلى آله وسلم، والخطاب الموجه للرسول في القرآن الكريم على ثلاثة أقسام‏:‏ القسم الأول‏:‏ أن يقوم الدليل على أنه خاص به فيختص به‏.‏ القسم الثاني‏:‏ أن يقوم الدليل على أنه عام فيعم‏.‏ القسم الثالث‏:‏ أن لا يدل دليل على هذا ولا على هذا، فيكون خاصًّا به لفظًا، عامًّا له وللأمة حكمًا‏.‏ مثال الأول‏:‏ قوله تبارك وتعالى‏:‏ ‏{‏أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ وَوَضَعْنَا عَنكَ وِزْرَكَ‏}‏ ‏[‏الشرح‏:‏ 1، 2‏]‏‏.‏ ومثاله أيضًا قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَأَرْسَلْنَاكَ لِلنَّاسِ رَسُولاً‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 79‏]‏‏.‏ فإن هذا من المعلوم أنه خاص بالنبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم‏.‏ ومثال الثاني الموجه للرسول - صلى الله عليه وآله وسلم - وفيه قرينة تدل على العموم‏:‏ قوله تعالى‏:‏ ‏{‏يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاء فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ‏}‏ ‏[‏الطلاق‏:‏ 1‏]‏‏.‏ فوجه الخطاب أولًا للرسول - صلى الله عليه وآله وسلم - قال‏:‏ ‏{‏يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ‏}‏ ولم يقل ‏"‏يا أيها الذين آمنوا إذا طلقتم‏"‏ قال‏:‏ ‏{‏يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ‏}‏، ولم يقل‏:‏ ‏(‏يا أيها النبي إذا طلقت‏)‏ قال‏:‏ ‏{‏يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ‏}‏ فدل هذا على أن الخطاب الموجه للرسول - صلى الله عليه وآله وسلم - موجه له وللأمة‏.‏ وأما أمثلة الثالث‏:‏ فهي كثيرة جدًا يوجه الله الخطاب للرسول - صلى الله عليه وآله وسلم - والمراد الخطاب له لفظًا وللعموم حكمًا‏.‏ هنا يقول الله عز وجل‏:‏ ‏{‏سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى‏}‏ ‏{‏سَبِّحِ‏}‏ يعني نزه الله عن كل ما لا يليق بجلاله وعظمته، فإن التسبيح يعني التنزيه، إذا قلت‏:‏ سبحان الله، يعني أنني أنزه الله عن كل سوء، عن كل عيب، عن كل نقص، ولهذا كان من أسماء الله تعالى ‏(‏السلام، القدوس‏)‏ لأنه منزه عن كل عيب‏.‏ وأضرب أمثلة‏:‏ من صفات الله تعالى‏:‏ الحياة ليس فيها نقص بوجه من الوجوه، وحياة المخلوق فيها نقص، أولًا‏:‏ لأنها مسبوقة بالعدم فالإنسان ليس أزليًا‏.‏ وثانيًا‏:‏ أنها ملحوقة بالفناء ‏{‏كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ‏}‏ ‏[‏الرحمن‏:‏ 26‏]‏‏.‏ مثال آخر‏:‏ سمع الله عز وجل ليس فيه نقص يسمع كل شيء، حتى إن المرأة التي جاءت تشتكي إلى النبي - صلى الله عليه وسلّم - والتي ذكر الله تعالى قصتها في سورة المجادلة، كانت تُحدث النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم وعائشة في الحجرة يخفى عليها بعض حديثها، والله تعالى يقول في كتابه‏:‏ ‏{‏قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا‏}‏ ‏[‏المجادلة‏:‏ 1‏]‏‏.‏ ولهذا قالت عائشة‏:‏ ‏(‏الحمد لله الذي وسع سمعه الأصوات‏)‏، إن المرأة المجادلة لتشتكي إلى النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم وإنه ليخفى علي بعض حديثها‏.‏ إذن معنى ‏{‏سَبِّح‏}‏ نزه الله عن كل عيب ونقص‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى‏}‏ قال بعض المفسرين‏:‏ إن قوله ‏{‏اسْمَ رَبِّكَ‏}‏ يعني مسمى ربك؛ لأن التسبيح ليس للاسم بل لله نفسه، ولكن الصحيح أن معناها‏:‏ سبح ربك ذاكرًا اسمه، يعني لا تسبحه بالقلب فقط بل سبحه بالقلب واللسان، وذلك بذكر اسمه تعالى، ويدل لهذا المعنى قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ‏}‏ ‏[‏الواقعة‏:‏ 96‏]‏‏.‏ يعني سبح تسبيحًا مقرونًا باسم، وذلك لأن تسبيح الله تعالى قد يكون بالقلب، بالعقيدة، وقد يكون باللسان، وقد يكون بهما جميعًا، والمقصود أن يسبح بهما جميعًا بقلبه لافظًا بلسانه‏.‏ وقوله ‏{‏رَبِّكَ‏}‏ الرب معناه الخالق المالك المدبر لجميع الأمور، فالله تعالى هو الخالق، وهو المالك، وهو المدبر لجميع الأمور، والمشركون يقرون بذلك ‏{‏وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ‏}‏ ‏[‏لقمان‏:‏ 25‏]‏‏.‏ ‏{‏وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ‏}‏ ‏[‏الزخرف‏:‏ 87‏]‏‏.‏ وأخبر الله سبحانه وتعالى أنهم إذا سئلوا ‏{‏أَمَّن يَمْلِكُ السَّمْعَ والأَبْصَارَ وَمَن يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيَّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَن يُدَبِّرُ الأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 31‏]‏‏.‏ فهم يقرون بأن الله له الملك، وله التدبير، وله الخلق، لكن يعبدون معه غيره، وهذا من الجهل، كيف تقر بأن الله وحده هو الخالق، المالك، المدبر للأمور كلها وتعبد معه غيره‏!‏‏!‏ إذن معنى الرب هو الخالق، المالك، المدبر لجميع الأمور، وكل إنسان يقر بذلك يلزمه أن لا يعبد إلا الله، كما تدل عليه الآيات الكثيرة‏:‏ ‏{‏يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 21‏]‏‏.‏ قال‏:‏ ‏{‏اعْبُدُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ‏}‏ يعني لا تعبدون غيره‏.‏ ‏{‏الأَعْلَى‏}‏ من العلو، وعلو الله عز وجل نوعان‏:‏ علو صفة، وعلو ذات، أما علو الصفة‏:‏ فإن أكمل الصفات لله عز وجل، قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَلِلّهِ الْمَثَلُ الأَعْلَىَ‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏ 60‏]‏‏.‏ وأما علو الذات‏:‏ فهو أن الله تعالى فوق عباده مستو على عرشه، والإنسان إذا قال‏:‏ يا الله أين يتجه‏؟‏ يتجه إلى السماء إلى فوق، فالله جل وعلا فوق كل شيء مستو على عرشه‏.‏ إذن ‏{‏الأَعْلَىَ‏}‏ إذا قرأتها فاستشعر بنفسك أن الله عال بصفاته، وعال بذاته، ولهذا كان الإنسان إذا سجد يقول‏:‏ سبحان ربي الأعلى، يتذكر بسفوله هو، لأنه هو الان نزل، فأشرف ما في الإنسان وأعلى ما في الإنسان هو وجهه ومع ذلك يجعله في الأرض التي تداس بالأقدام، فكان من الحكمة أن تقول‏:‏ سبحان ربي الأعلى، يعني أنزه ربي الذي هو فوق كل شيء، لأني نزلت أنا أسفل كل شيء، فتسبح الله الأعلى بصفاته، والأعلى بذاته، وتشعر عندما تقول‏:‏ سبحان ربي الأعلى، أن ربك تعالى فوق كل شيء، وأنه أكمل كل شيء في الصفات‏.‏ ثم قال‏:‏ ‏{‏الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى‏}‏ ‏{‏خَلَقَ‏}‏ يعني أوجد من العدم، كل المخلوقات أوجدها الله عز وجل، قال الله تبارك وتعالى‏:‏ ‏{‏يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ لَن يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِن يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لاَّ يَسْتَنقِذُوهُ مِنْهُ‏}‏ ‏[‏الحج‏:‏ 23‏]‏‏.‏ وهو مثل عظيم، كل الذين تدعون من دون الله لن يخلقوا ذبابًا، ولو اجتمعوا له، لو يجتمع جميع الالهة التي تعبد من دون الله وجميع السلاطين وجميع الرؤساء وجميع المهندسين على أن يخلقوا ذبابًا واحدًا ما استطاعوا إلى ذلك سبيلًا، ونحن في هذا العصر وقد تقدمت الصناعة هذا التقدم الهائل لو اجتمع كل هؤلاء الخلق أن يخلقوا ذبابًا ما استطاعوا، حتى لو أنهم كما يقولون‏:‏ صنعوا آدميًا آليًا ما يستطيعون أن يخلقوا ذبابة، هذا الادمي الالي ما هو إلا الالات تتحرك فقط، لكن لا تجوع، ولا تعطش، ولا تحتر، ولا تبرد، ولا تتحرك إلا بتحريك، الذباب لا يمكن أن يخلقه كل من سوى الله، فالله سبحانه وتعالى وحده هو الخالق وبماذا يخلق‏؟‏ بكلمة واحدة ‏{‏إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِندَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ثِمَّ قَالَ لَهُ كُن فَيَكُونُ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 59‏]‏‏.‏ ‏{‏إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ‏}‏ ‏[‏يس‏:‏ 82‏]‏‏.‏ كلمة واحدة، الخلائق كلها تموت وتفنى وتأكلها الأرض، وتأكلها السباع، وتحرقها النيران، وإذا كان يوم القيامة زجرها الله زجرة واحدة أخرجي فتخرج‏.‏ ‏{‏فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ فَإِذَا هُم بِالسَّاهِرَةِ‏}‏ ‏[‏النازعات‏:‏ 13‏]‏‏.‏ ‏{‏إِن كَانَتْ إِلاَّ صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ جَمِيعٌ لَّدَيْنَا مُحْضَرُونَ‏}‏ ‏[‏يس‏:‏ 53‏]‏‏.‏ كل العالم من إنس وجن، ووحوش وحشرات وغيرها كلها يوم القيامة تحشر بكلمة واحدة‏.‏ إذن فالله عز وجل وحده هو الخالق ولا أحد يخلق معه، والخلق لا يعسره ولا يعجزه وهو سهل عليه ويكون بكلمة واحدة‏.‏ وقوله ‏{‏فَسَوَّى‏}‏ يعني سوى ما خلقه على أحسن صورة، وعلى الصورة المتناسبة، الإنسان مثلًا قال الله تعالى في سورة الانفطار‏:‏ ‏{‏الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ فِي أَيِّ صُورَةٍ مَّا شَاء رَكَّبَكَ‏}‏ ‏[‏الانفطار‏:‏ 7، 8‏]‏ ‏{‏لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ‏}‏ ‏[‏التين‏:‏ 4‏]‏‏.‏ لا يوجد في الخلائق شيء أحسن من خلقة الإنسان، رأسه فوق، وقلبه في الصدر، وعلى هيئة تامة، ولهذا أول من يدخل في قوله‏:‏ ‏{‏فَسَوَّى‏}‏ هو تسوية الإنسان ‏{‏الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى‏}‏ كل شيء يسوى على الوجه الذي يكون لائقًا به‏.‏ ‏{‏وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى‏}‏ قدر كل شيء عز وجل كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا‏}‏ ‏[‏الفرقان‏:‏ 2‏]‏‏.‏ قدره في حاله، وفي مآله، وفي ذاته، وفي صفاته، كل شيء له قدر محدود، فالاجال محدودة، والأحوال محدودة، والأجسام محدودة، وكل شيء مقدر تقديرًا كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا‏}‏‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏فَهَدَى‏}‏ يشمل الهداية الشرعية، والهداية الكونية، الهداية الكونية‏:‏ أن الله هدى كل شيء لما خلق له، قال فرعون لموسى‏:‏ ‏{‏فَمَن رَّبُّكُمَا يَا مُوسَى قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى‏}‏ ‏[‏طه‏:‏ 49، 50‏]‏‏.‏ تجد كل مخلوق قد هداه الله تعالى لما يحتاج إليه، فالطفل إذا خرج من بطن أمه وأراد أن يرضع يهديه الله عز وجل إلى هذا الثدي يرتضع منه، وانظر إلى أدنى الحشرات النمل مثلًا لا تصنع بيوتها إلا في مكان مرتفع على ربوة من الأرض تخشى من السيول تدخل بيوتها فتفسدها، وإذا جاء المطر وكان في جحورها، أو في بيوتها طعام من الحبوب تخرج به إذا طلعت الشمس تنشره لئلا يعفن، وهي قبل أن تدخره تأكل أطراف الحبة لئلا تنبت فتفسد عليهم، هذا الشيء مشاهد مجرب من الذي هداها لذلك‏؟‏ إنه الله عز وجل، وهذه هداية كونية أي‏:‏ أنه هدى كل مخلوق لما يحتاج إليه‏.‏ أما الهداية الشرعية - وهي الأهم بالنسبة لبني آدم - فهي أيضًا بينها الله عز وجل حتى الكفار قد هداهم الله يعني بيّـن لهم، قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى‏}‏ ‏[‏فصلت‏:‏ 17‏]‏‏.‏ والهداية الشرعية هي المقصود من حياة بني آدم ‏{‏وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ‏}‏ ‏[‏الذاريات‏:‏ 56‏]‏‏.‏ وإنما أخبرنا الله بذلك لأجل أن نلجأ إليه في جميع أمورنا، إذا علمنا أنه هو الخالق بعد العدم وأصابنا المرض نلجأ إلى الله لأن الذي خلقك وأوجدك من العدم قادر على أن يصحح بدنك، إذًا الجأ إلى ربك، اعتمد عليه، ولا حرج أن تتناول ما أباح لك من الدواء، لكن مع اعتقاد أن هذا الدواء سبب من الأسباب جعله الله عز وجل، وإذا شفيت بهذا السبب فالذي شفاك هو الله عز وجل، هو الذي جعل هذا الدواء سببًا لشفائك، ولو شاء لجعل هذا الدواء سببًا لهلاكك، فإذا علمنا أن الله هو الخالق فنحن نلجأ في أمورنا كلها إلى الله عز وجل، إذا علمنا أنه هو الهادي فإننا نستهدي بهدايته، بشريعته حتى نصل إلى ما أعد لنا ربنا عز وجل من الكرامة‏.‏ ‏{‏سَنُقْرِؤُكَ فَلا تَنسَى إِلاَّ مَا شَاء اللَّهُ إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ وَمَا يَخْفَى‏}‏ هذا وعد من الله سبحانه وتعالى لرسوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم أنه يقرئه القرآن ولا ينساه الرسول، وكان الرسول - صلى الله عليه وآله وسلم - يتعجل إذا جاء جبريل يُلقي عليه الوحي فقال الله له‏:‏ ‏{‏لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ‏}‏ ‏[‏القيامة‏:‏ 16 - 19‏]‏‏.‏ فصار النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم ينصت حتى ينتهي جبريل من قراءة الوحي ثم يقرأه، وهنا يقول‏:‏ ‏{‏سَنُقْرِؤُكَ فَلا تَنسَى إِلاَّ مَا شَاء اللَّهُ‏}‏ يعني إلا ما شاء أن تنساه فإن الأمر بيده عز وجل ‏{‏يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاء وَيُثْبِتُ‏}‏ ‏[‏الرعد‏:‏ 39‏]‏‏.‏ ‏{‏مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَا أَوْ مِثْلِهَا أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَىَ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا لَكُم مِّن دُونِ اللَّهِ مِن وَلِيٍّ وَلاَ نَصِيرٍ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 106، 107‏]‏‏.‏ وربما نُسّي النبي صلى الله عليه وآله وسلم آية من كتاب الله ولكنه سرعان ما يذكرها - صلى الله عليه وآله وسلم - وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ‏}‏ أي أن الله تعالى يعلم الجهر، والجهر‏:‏ ما يجهر به الإنسان ويتكلم به مسموعًا‏.‏ ‏{‏وَمَا يَخْفَى‏}‏ أي ما يكون خفيًّا لا يُظهر فإن الله يعلمه كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ‏}‏ ‏[‏ق‏:‏ 16‏]‏‏.‏ فهو يعلم عز وجل الجهر ويعلم أيضًا ما يخفى‏.‏ ‏{‏وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرَى‏}‏ وهذا أيضًا وعد من الله عز وجل لرسوله - صلى الله عليه وآله وسلم - أن ييسره لليسرى، واليسرى أن تكون أموره ميسرة، ولاسيما في طاعة الله عز وجل، ولما أخبر النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - أنه ما من أحد من الناس إلا وقد كتب مقعده من الجنة، ومقعده من النار، كل بني آدم مكتوب مقعده من الجنة إن كان من أهل الجنة، ومقعده من النار إن كان من أهل النار، قالوا‏:‏ ‏(‏يا رسول الله أفلا ندع العمل ونتكل - يعني على ما كتب - قال‏:‏ ‏(‏لا‏.‏ اعملوا فكلٌّ ميسر لما خلق له‏)‏ فأهل السعادة ييسرون لعمل أهل السعادة، وأهل الشقاوة ييسرون لعمل أهل الشقاوة، ثم قرأ قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَأَمَّا مَن أَعْطَى وَاتَّقَى وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى‏}‏ وهذا الحديث يقطع حُجة من يحتج بالقدر على معاصي الله فيعصي الله ويقول‏:‏ هذا مكتوب علي‏.‏ وهذا ليس بحجة؛ لأن الرسول - صلى الله عليه وآله وسلم - قال‏:‏ ‏(‏اعملوا فكلٌّ ميسر لما خلق له‏)‏ هل أحد يحجزك عن العمل الصالح لو أردته‏؟‏ أبدًا‏.‏ هل أحد يجبرك على المعصية لو لم تردها‏؟‏ أبدًا لا أحد، ولهذا لو أن أحدًا أجبرك على المعصية وأكرهك عليها لم يكن عليك إثم، ولا يترتب على فعلك لها ما يترتب على فعل المختار لها، حتى إن الكفر وهو أعظم الذنوب، قال الله تعالى فيه‏:‏ ‏{‏مَن كَفَرَ بِاللَّهِ مِن بَعْدِ إيمَانِهِ إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ وَلَكِن مَّن شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِّنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏ 106‏]‏‏.‏ إذن نقول اعمل أيها الإنسان، اعمل الخير وتجنب الشر، حتى ييسرك الله لليسرى ويجنبك العسرى، فرسول الله - صلى الله عليه وسلّم - وعده الله بأن ييسره لليسرى فيسهل عليه الأمور، ولهذا لم يقع النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم في شدة وضنك إلا وجد له مخرجًا - صلى الله عليه وآله وسلم ـ‏.‏ ثم أمره تعالى أن يذكر فقال‏:‏ ‏{‏فَذَكِّرْ إِن نَّفَعَتِ الذِّكْرَى‏}‏ يعني ذكر الناس، ذكرهم بآيات الله، ذكرهم بأيام الله، عظهم، ‏{‏إِن نَّفَعَتِ الذِّكْرَى‏}‏ يعني في محل تنفع فيه الذكرى، وعلى هذا فتكون ‏{‏إِن‏}‏ شرطية والمعنى إن نفعت الذكرى فذكر، وإن لم تنفع فلا تذكر، لأنه لا فائدة من تذكير قوم نعلم أنهم لا ينتفعون، هذا ما قيل في هذه الآية‏.‏ وقال بعض العلماء‏:‏ المعنى ذكر على كل حال، إن كان هؤلاء القوم تنفع فيهم الذكرى فيكون الشرط هنا ليس المقصود به أنه لا يُذكر إلا إذا نفعت، بل المعنى ذكر إن كان هؤلاء القوم ينفع فيهم التذكير، فالمعنى على هذا القول‏:‏ ذكر بكل حال، والذكرى سوف تنفع‏.‏ تنفع المؤمنين، وتنفع الُمذكِّر أيضًا، فالمذكر منتفع على كل حال، والمذكر إن انتفع بها فهو مؤمن، وإن لم ينتفع بها فإن ذلك لا ينقص من أجر المذكر شيئًا، فذكر سواء نفعت الذكرى أم لم تنفع‏.‏ وقال بعض العلماء‏:‏ إن ظن أن الذكرى تنفع وجبت، وإن ظن أنها لا تنفع فهو مخير إن شاء ذكر وإن شاء لم يذكر‏.‏ ولكن على كل حال نقول‏:‏ لابد من التذكير حتى وإن ظننت أنها لا تنفع، فإنها سوف تنفعك أنت، وسوف يعلم الناس أن هذا الشيء الذي ذكرت عنه إما واجب، وإما حرام، وإذا سكتَّ والناس يفعلون المحرم، قال الناس‏:‏ لو كان هذا محرمًا لذكَّر به العلماء، أو لو كان هذا واجبًا لذكَّر به العلماء، فلابد من التذكير ولابد من نشر الشريعة سواء نفعت أم لم تنفع‏.‏ ثم ذكر الله عز وجل من سيذكر ومن لا يتذكر فقال‏:‏ ‏{‏سَيَذَّكَّرُ مَن يَخْشَى وَيَتَجَنَّبُهَا الأَشْقَى‏}‏ فبين تعالى أن الناس ينقسمون بعد الذكرى إلى قسمين‏:‏ القسم الأول‏:‏ من يخشى الله عز وجل، أي يخافه خوفًا عن علم بعظمة الخالق جل وعلا، فهذا إذا ذكر بآيات ربه تذكر كما قال تعالى في وصف عباد الرحمن‏:‏ ‏{‏وَالَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا صُمًّا وَعُمْيَانًا‏}‏ ‏[‏الفرقان‏:‏ 73‏]‏‏.‏ فمن يخشى الله ويخاف الله إذا ذكر ووعظ بآيات الله اتعظ وانتفع‏.‏ أما القسم الثاني‏:‏ فقال‏:‏ ‏{‏وَيَتَجَنَّبُهَا الأَشْقَى‏}‏ أي يتجنب هذه الذكرى ولا ينتفع بها الأشقى و‏{‏الأَشْقَى‏}‏ هنا اسم تفضيل من الشقاء وهو ضد السعادة كما في سورة هود‏:‏ ‏{‏فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُواْ فَفِي النَّارِ‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 106‏]‏‏.‏ ‏{‏وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُواْ فَفِي الْجَنَّةِ‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 108‏]‏‏.‏ فالأشقى المتصف بالشقاوة يتجنب الذكرى ولا ينتفع بها، والأشقى هو البالغ في الشقاوة غايتها وهذا هو الكافر، فإن الكافر يذكر ولا ينتفع بالذكرى، ولهذا قال‏:‏ ‏{‏الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرَى ثُمَّ لا يَمُوتُ فِيهَا وَلا يَحْيَى‏}‏ الذي يصلى النار الموصوفة بأنها ‏{‏الْكُبْرَى‏}‏ وهي نار جهنم؛ لأن نار الدنيا صغرى بالنسبة لها، فقد صح عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم‏:‏ ‏(‏أن نار الدنيا جزء من سبعين جزءًا من نار الآخرة‏)‏، أي أن نار الاخرة فضلت على نار الدنيا بتسعة وستين جزءًا، والمراد بنار الدنيا كلها أشد ما يكون من نار الدنيا فإن نار الاخرة فضلت عليها بتسعة وستين جزءًا ولهذا وصفها بقوله‏:‏ ‏{‏النَّارَ الْكُبْرَى‏}‏ ثم إذا صلاها ‏{‏لا يَمُوتُ فِيهَا وَلا يَحْيى‏}‏ المعنى لا يموت فيستريح، ولا يحيى حياة سعيدة، وإلا فهم أحياء في الواقع لكن أحياء يعذبون ‏{‏كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 56‏]‏‏.‏ كما قال الله عز وجل ‏{‏وَنَادَوْا يَا مَالِكُ‏}‏ وهو خازن النار ‏{‏لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ‏}‏ يعني ليهلكنا ويريحنا من هذا العذاب ‏{‏قَالَ إِنَّكُم مَّاكِثُونَ‏}‏ ولا راحة ويقال لهم‏:‏ ‏{‏لَقَدْ جِئْنَاكُم بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ‏}‏ ‏[‏الزخرف‏:‏ 78‏]‏‏.‏ هذا معنى قوله‏:‏ ‏{‏لا يَمُوتُ فِيهَا وَلا يَحْيَى‏}‏ لأنه قد يشكل على بعض الناس كيف يكون الإنسان لا حي ولا ميت‏؟‏ والإنسان إما حي وإما ميت‏؟‏ فيقال‏:‏ لا يموت فيها ميتة يستريح بها، ولا يحيى حياة يسعد بها، فهو في عذاب وجحيم، وشدة يتمنى الموت ولكن لا يحصل له، هذا هو معنى قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لا يَمُوتُ فِيهَا وَلا يَحْيَى‏}‏‏.‏

{‏قَدْ أَفْلَحَ مَن تَزَكَّى وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَالآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الأُولَى صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى‏}‏‏.‏

{‏قَدْ أَفْلَحَ مَن تَزَكَّى وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى‏}‏ ‏{‏أَفْلَحَ‏}‏ مأخوذ من الفلاح، والفلاح كلمة جامعة، وهو‏:‏ الفوز بالمطلوب، والنجاة من المرهوب، هذا هو معنى الفلاح فهي كلمة جامعة لكل خير، دافعة لكل شر‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏مَن تَزَكَّى‏}‏ مأخوذة من التزكية وهو التطهير، ومنه سميت الزكاة زكاة؛ لأنها تطهر الإنسان من الأخلاق الرذيلة، أخلاق البخل كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 103‏]‏‏.‏ إذن ‏{‏تَزَكَّى‏}‏ يعني تطهر، ظاهره وباطنه، يتزكى أولًا من الشرك بالنسبة لمعاملة الله، فيعبد الله مخلصًا له الدين، لا يرائي، ولا يسمع، ولا يطلب جاهًا، ولا رئاسة فيما يتعبد به الله عز وجل، وإنما يريد بهذا وجه الله والدار الاخرة‏.‏ تزكى في اتباع الرسول - صلى الله عليه وآله وسلم - بحيث لا يبتدع في شريعته لا بقليل ولا كثير، لا في الاعتقاد، ولا في الأقوال ولا في الأفعال، وهذا أعني التزكي بالنسبة للرسول - صلى الله عليه وآله وسلم - وهو اتباعه من غير ابتداع لا ينطبق تمامًا إلا على الطريقة السلفية طريقة أهل السنة والجماعة الذين يؤمنون بكل ما وصف الله به نفسه في كتابه، أو على لسان رسوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم، على الطريقة السلفية الذين لا يبتدعون في العبادات القولية، ولا في العبادات الفعلية شيئًا في دين الله، تجدهم يتبعون ما جاء به الشرع، خلافًا لما يصنعه بعض المبتدعة في الأذكار المبتدعة، إما في نوعها، وإما في كيفيتها وصفتها، وإما في أدائها كما يفعله بعض أصحاب الطرق من الصوفية وغيرهم‏.‏ كذلك يتزكى بالنسبة لمعاملة الخلق بحيث يطهر قلبه من الغل والحقد على إخوانه المسلمين فتجده دائمًا طاهر القلب يحب لإخوانه ما يحب لنفسه لا يرضى لأحد أن يمسه سوء، بل يود أن جميع الناس سالمون من كل شر، موفقون لكل خير‏.‏ فـ‏{‏مَن تَزَكَّى‏}‏ أي من تطهر ظاهره وباطنه، فتطهر باطنه من الشرك بالله عز وجل، ومن الشك، ومن النفاق، ومن العداوة للمسلمين والبغضاء، وغير ذلك مما يجب أن يتطهر القلب منه، وتطهر ظاهره من إطلاق لسانه وجوارحه في العدوان على عبادالله عز وجل، فلا يغتاب أحدًا، ولا ينم عن أحد، ولا يسب أحدًا، ولا يعتدي على أحد بضرب، أو جحد مال أو غير ذلك، فالتزكي كلمة عامة تشمل التطهر من كل درن ظاهر أو باطن، فصارت التزكية لها ثلاث متعلقات‏:‏ الأول‏:‏ في حق الله‏.‏ والثاني‏:‏ في حق الرسول‏.‏ والثالث‏:‏ في حق عامة الناس‏.‏ في حق الله تعالى يتزكى من الشرك فيعبد الله تعالى مخلصًا له الدين‏.‏ في حق الرسول يتزكى من الابتداع فيعبد الله على مقتضى شريعة النبي - صلى الله عليه وسلّم - في العقيدة، والقول، والعمل‏.‏ في معاملة الناس يتزكى من الغل والحقد والعداوة والبغضاء، وكل ما يجلب العداوة والبغضاء بين المسلمين يتجنبه، ويفعل كل ما فيه المودة والمحبة ومن ذلك‏:‏ إفشاء السلام الذي قال فيه الرسول - صلى الله عليه وآله وسلم - ‏:‏ ‏(‏لا تدخلوا الجنة حتى تؤمنوا، ولا تؤمنوا حتى تحابوا، أفلا أدلكم على شيء إذا فعلتموه تحاببتم‏:‏ أفشوا السلام بينكم‏)‏، فالسلام من أقوى الأسباب التي تجلب المحبة والمودة بين المسلمين وهذا الشيء مشاهد، لو مر بك رجل ولم يسلم عليك صار في نفسك شيء، وإذا لم تسلم عليه أنت صار في نفسه شيء، لكن لو سلمت عليه، أو سلم عليك صار هذا كالرباط بينكما يوجب المودة والمحبة، وقد قال النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - في السلام‏:‏ ‏(‏وتقرأ السلام على من عرفت ومن لم تعرف‏)‏، وأكثر الناس اليوم إذا سلم يسلم على من يعرف، وأما من لا يعرفه فلا يسلم عليه، وهذا غلط، لأنك إذا سلمت على من تعرف لم يكن السلام خالصًا لله، سلم على من عرفت ومن لم تعرف من المسلمين حتى تنال بذلك محبة المسلمين بعضهم لبعض، وتمام الإيمان، والنهاية دخول الجنة جعلنا الله من أهلها‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى‏}‏ أي‏:‏ ذكر الله، ولكنه ذكر سبحانه وتعالى الاسم من أجل أن يكون الذكر باللسان؛ لأنه ينطق فيه باسم الله فيقول مثلًا‏:‏ سبحان الله، والحمد لله، والله أكبر، فيذكر اسم الله، ويعني أيضًا ذكر اسم الله تعالى بالتعبد له، ويدخل في ذكر اسم الله الوضوء، فالوضوء من ذكر اسم الله، أولًا‏:‏ لأن الإنسان لا يتوضأ إلا امتثالًا لأمر الله‏.‏ وثانيًا‏:‏ أنه إذا ابتدأ وضوءه قال‏:‏ بسم الله، وإذا انتهى قال‏:‏ أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، اللهم اجعلني من التوابين واجعلني من المتطهرين‏.‏ ومن ذكر الله عز وجل خطبة الجمعة، فإن خطبة الجمعة من ذكر الله، لقول الله تعالى‏:‏ ‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِي لِلصَّلاةِ مِن يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ‏}‏ ‏[‏الجمعة‏:‏ 9‏]‏‏.‏ وعلى هذا قال بعض العلماء‏:‏ ‏{‏وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ‏}‏ يعني الخطيب يوم الجمعة ‏{‏فَصَلَّى‏}‏ أي صلاة الجمعة‏.‏ فهذه الآية تشمل كل الصلوات التي يسبقها ذكر، وما من صلاة إلا ويسبقها ذكر؛ لأن الإنسان يتوضأ قبيل الصلاة فيذكر اسم الله ثم يصلي‏.‏ لكن الصحيح‏:‏ أنها أعم من هذا، وأن المراد به كل ذكر لاسم الله عز وجل، أي كلما ذكر الإنسان اسم الله اتعظ وأقبل إلى الله وصلى‏.‏ والصلاة معروفة هي عبادة ذات أقوال وأفعال، مفتتحة بالتكبير، مختتمة بالتسليم‏.‏ ثم قال تعالى‏:‏ ‏{‏بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَالآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى‏}‏ ‏{‏بَلْ‏}‏ هنا للإضراب الانتقالي، لأن ‏{‏بَلْ‏}‏ تأتي للإضراب الإبطالي، وتأي للإضراب الانتقالي، أي أنه سبحانه وتعالى انتقل ليبين حال الإنسان أنه مؤثر للحياة الدنيا لأنها عاجلة، والإنسان خلق من عجل، ويحب ما فيه العجلة، فتجده يؤثر الحياة الدنيا، وهي في الحقيقة على وصفها دنيا، دنيا زمنًا، ودنيا وصفًا، أما كونها دنيا زمنًا فلأنها سابقة على الاخرة فهي متقدمة عليها، والدنو بمعنى القرب‏.‏ وأما كونها دنيا ناقصة فكذلك هو الواقع فإن الدنيا مهما طالت بالإنسان فإن أمدها الفناء، ومنتهاها الفناء، ومهما ازدهرت للإنسان فإن عاقبتها الذبول، ولهذا لا يكاد يمر بك يوم في سرور إلا وعقبه حزن، وفي هذا يقول الشاعر‏:‏ فيوم علينا ويوم لنا ويوم نساء ويوم نسر تأمل حالك في الدنيا تجد أنه لا يمر بك وقت ويكون الصفو فيه دائمًا بل لابد من كدر، ولا يكون السرور دائمًا بل لابد من حزن، ولا تكون راحة دائمًا بل لابد من تعب، فالدنيا على اسمها دنيا‏.‏ ‏{‏وَالآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى‏}‏ الآخرة خير من الدنيا وأبقى، خير بما فيها من النعيم والسرور الدائم الذي لا ينغص بكدر ‏{‏لاَ يَمَسُّهُمْ فِيهَا نَصَبٌ وَمَا هُم مِّنْهَا بِمُخْرَجِينَ‏}‏ ‏[‏الحجر‏:‏ 48‏]‏‏.‏ كذلك أيضًا هي أبقى من الدنيا؛ لأن بقاء الدنيا كما أسلفنا قليل زائل مضمحل، بخلاف بقاء الاخرة فإنه أبد الابدين‏.‏ ‏{‏إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الأُولَى صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى‏}‏ ‏{‏إِنَّ هَذَا‏}‏ أي ما ذكر من كون الإنسان يؤثر الحياة الدنيا على الاخرة وينسى الاخرة، وكذلك ما تضمنته الآيات من المواعظ ‏{‏فِي الصُّحُفِ الأُولَى‏}‏ أي السابقة على هذه الأمة ‏{‏صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى‏}‏ وهي صحف جاء بها إبراهيم وموسى عليهما الصلاة والسلام، وفيها من المواعظ ما تلين به القلوب وتصلح به الأحوال، نسأل الله تعالى أن يجعلنا ممن أوتي في الدنيا حسنة، وفي الاخرة حسنة، ووقاه الله عذاب النار، إنه جواد كريم‏.‏

 تفسير سورة الغاشية

{‏بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ عَامِلَةٌ نَّاصِبَةٌ تَصْلَى نَارًا حَامِيَةً تُسْقَى مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ لَّيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ إِلاَّ مِن ضَرِيعٍ لا يُسْمِنُ وَلا يُغْنِي مِن جُوعٍ‏}‏‏.‏

البسملة تقدم الكلام عليها‏.‏ ‏{‏هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ‏}‏ يجوز أن يكون الخطاب موجه للرسول صلى الله عليه وعلى آله وسلم وحده وأمته تبعًا له، ويجوز أن يكون عامًا لكل من يتأتى خطابه، والاستفهام هنا للتشويق فهو كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنجِيكُم مِّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ‏}‏ ‏[‏الصف‏:‏ 10‏]‏‏.‏ ويجوز أن يكون للتعظيم لعظم هذا الحديث عن الغاشية‏.‏ ‏{‏حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ‏}‏ أي نبأها، و‏{‏الْغَاشِيَةِ‏}‏ هي الداهية العظيمة التي تغشى الناس، وهي يوم القيامة التي تحدث الله عنها في القرآن كثيرًا، ووصفها بأوصاف عظيمة مثل قوله تعالى‏:‏ ‏{‏يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُم بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ‏}‏ ‏[‏الحج‏:‏ 1، 2‏]‏‏.‏ ثم قسم الله سبحانه وتعالى الناس في هذا اليوم إلى قسمين فقال‏:‏ ‏{‏وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ‏}‏ ‏{‏خَاشِعَةٌ‏}‏ أي ذليلة كما قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏وَتَرَاهُمْ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا خَاشِعِينَ مِنَ الذُّلِّ يَنظُرُونَ مِن طَرْفٍ خَفِيٍّ‏}‏ ‏[‏الشورى‏:‏ 45‏]‏‏.‏ فمعنى خاشعة يعني ذليلة‏.‏ ‏{‏عَامِلَةٌ نَّاصِبَةٌ‏}‏ عاملة عملًا يكون به النصب وهو التعب‏.‏ قال العلماء‏:‏ وذلك أنهم يكلفون يوم القيامة بجر السلاسل والأغلال، والخوض في نار جهنم، كما يخوض الرجل في الوحل، فهي عاملة تعبة من العمل الذي تكلف به يوم القيامة؛ لأنه عمل عذاب وعقاب، وليس المعنى كما قال بعضهم أن المراد بها‏:‏ الكفار الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعًا، وذلك لأن الله قيد هذا بقوله‏:‏ ‏{‏وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ‏}‏ أي يومئذ تأتي الغاشية، وهذا لا يكون إلا يوم القيامة‏.‏ إذن فهي عاملة ناصبة بما تكلف به من جر السلاسل والأغلال، والخوض في نار جهنم أعاذنا الله منها‏.‏ ‏{‏تَصْلَى نَارًا حَامِيَةً‏}‏ أي تدخل في نار جهنم، والنار الحامية التي بلغت من حموها أنها فضلت على نار الدنيا بتسعة وستين جزءًا، يعني نار الدنيا كلها بما فيها من أشد ما يكون من حرارة نار جهنم أشد منها بتسعة وستين جزءًا، ويدلك على شدة حرارتها أن هذه الشمس حرارتها تصل إلينا مع بعد ما بيننا وبينها، ومع أنها تنفذ من خلال أجواء باردة غاية البرودة وتصل لنا هذه الحرارة التي تدرك ولاسيما في أيام الصيف، فالنار نار حامية، ولما بين مكانهم، وأنهم في نار جهنم الحامية، بين طعامهم وشرابهم فقال‏:‏ ‏{‏تُسْقَى مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ لَّيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ إِلاَّ مِن ضَرِيعٍ‏}‏ ‏{‏تُسْقَى‏}‏ أي هذه الوجوه ‏{‏مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ‏}‏ أي شديدة الحرارة، هذا بالنسبة لشرابهم، ومع هذا لا يأتي هذا الشراب بكل سهولة، أو كلما عطشوا سقوا، وإنما يأتي كلما اشتد عطشهم واستغاثوا كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَإِن يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاء كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ‏}‏ ‏[‏الكهف‏:‏ 29‏]‏‏.‏ هذا الماء إذا قرب من وجوههم شواها وتساقط لحمها، وإذا دخل في أجوافهم قطعها، يقول عز وجل‏:‏ ‏{‏وَسُقُوا مَاءً حَمِيمًا فَقَطَّعَ أَمْعَاءهُمْ‏}‏ ‏[‏محمد‏:‏ 15‏]‏‏.‏ إذن لا يستفيدون منه لا ظاهرًا ولا باطنًا، لا ظاهرًا بالبرودة ببرد الوجوه، ولا باطنًا بالري، ولكنهم - والعياذ بالله - يغاثون بهذا الماء ولهذا قال‏:‏ ‏{‏تُسْقَى مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ‏}‏‏.‏ فإذا قال قائل‏:‏ كيف تكون هذه العين في نار جهنم والعادة أن الماء يطفىء النار‏؟‏ فالجواب‏:‏ أولًا‏:‏ أن أمور الاخرة لا تقاس بأمور الدنيا، لو أنها قيست بأمور الدنيا ما استطعنا أن نتصور كيف يكون، أليس الشمس تدنو يوم القيامة من رؤوس الناس على قدر ميل، والميل إما ميل المكحلة وهو نصف الإصبع أو ميل المسافة كيلو وثلث أو نحو ذلك، وحتى لو كان كذلك فإنه لو كانت الاخرة كالدنيا لشوت الناس شيًّا، لكن الاخرة لا تقاس بالدنيا‏.‏ أيضًا يحشر الناس يوم القيامة في مكان واحد، منهم من هو في ظلمة شديدة، ومنهم من هو في نور ‏{‏نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ‏}‏ ‏[‏التحريم‏:‏ 8‏]‏‏.‏ يحشرون في مكان واحد ويعرقون منهم من يصل العرق إلى كعبه، ومنهم من يصل إلى ركبتيته، ومنهم من يصل إلى حِقويه، ومع ذلك هم في مكان واحد‏.‏ إذن أحوال الاخرة لا يجوز أن تقاس بأحوال الدنيا‏.‏ ثانيًا‏:‏ أن الله على كل شيء قدير‏.‏ ها نحن الان نجد أن الشجر الأخضر توقد منه النار كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏الَّذِي جَعَلَ لَكُم مِّنَ الشَّجَرِ الأَخْضَرِ نَارًا فَإِذَا أَنتُم مِّنْهُ تُوقِدُونَ‏}‏ ‏[‏يس‏:‏ 80‏]‏‏.‏ الشجر الأخضر رَطِب، ومع ذلك إذا ضرب بعضه ببعض، أو ضرب بالزند انقدح خرج منه نار حارة يابسة، وهو رطب بارد، فالله على كل شيء قدير، فهم يسقون من عين آنية في النار ولا يتنافى ذلك مع قدرة الله عز وجل‏.‏ أما طعامهم فقال‏:‏ ‏{‏لَّيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ إِلاَّ مِن ضَرِيعٍ لا يُسْمِنُ وَلا يُغْنِي مِن جُوعٍ‏}‏ الضريع قالوا‏:‏ إنه شجر ذو شوك عظيم إذا يبس لا يرعاه ولا البهائم، وإن كان أخضر رعته الإبل ويسمى عندنا الشبرق‏.‏ فهم - والعياذ بالله - في نار جهنم ليس لهم طعام إلا من هذا الضريع، ولكن لا تظن أن الضريع الذي في نار جهنم كالضريع الذي في الدنيا فهو يختلف عنه اختلافًا عظيمًا، ولهذا قال‏:‏ ‏{‏لا يُسْمِنُ‏}‏ فلا ينفع الأبدان في ظاهرها ‏{‏وَلا يُغْنِي مِن جُوعٍ‏}‏ فلا ينفعها في باطنها فهو لا خير فيه ليس فيه إلا الشوك، والتجرع العظيم، والمرارة، والرائحة المنتنة التي لا يستفيدون منها شيئًا‏.‏

{‏وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاعِمَةٌ لِسَعْيِهَا رَاضِيَةٌ فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ لاَّ تَسْمَعُ فِيهَا لاغِيَةً فِيهَا عَيْنٌ جَارِيَةٌ فِيهَا سُرُرٌ مَّرْفُوعَةٌ وَأَكْوَابٌ مَّوْضُوعَةٌ وَنَمَارِقُ مَصْفُوفَةٌ وَزَرَابِيُّ مَبْثُوثَةٌ‏}‏‏.‏

ثم ذكر الله عز وجل القسم الثاني من أقسام الناس في يوم الغاشية فقال‏:‏ ‏{‏وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاعِمَةٌ‏}‏ أي ناعمة بما أعطاها الله عز وجل من السرور والثواب الجزيل؛ لأنها علمت ذلك وهي في قبورها، فإن الإنسان في قبره ينعم، يفتح له باب إلى الجنة فيأتيه من روحها ونعيمها، فهي ناعمة ‏{‏لِسَعْيِهَا رَاضِيَةٌ‏}‏ أي لعملها الذي عملته في الدنيا راضية لأنها وصلت به إلى هذا النعيم وهذا السرور وهذا الفرح، فهي راضية لسعيها بخلاف الوجوه الأولى فإنها غاضبة - والعياذ بالله - غير راضية على ما قدمت‏.‏ ‏{‏فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ‏}‏ الجنة هي دار النعيم التي أعدها الله عز وجل لأوليائه يوم القيامة، فيها ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، قال الله تبارك وتعالى‏:‏ ‏{‏فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاء بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ‏}‏ ‏[‏السجدة‏:‏ 11‏]‏‏.‏ وقال تبارك وتعالى‏:‏ ‏{‏قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ‏}‏ إلى قوله‏:‏ ‏{‏أُوْلَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ‏}‏ ‏[‏المؤمنون‏:‏ 10، 11‏]‏‏.‏ وقال الله تعالى‏:‏ ‏{‏وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الأَنفُسُ وَتَلَذُّ الأَعْيُنُ وَأَنتُمْ فِيهَا خَالِدُونَ‏}‏ ‏[‏الزخرف‏:‏ 71‏]‏‏.‏ فهم في ‏{‏جَنَّةٍ عَالِيَةٍ‏}‏ العلو ضد السفول فهي فوق السماوات السبع، ومن المعلوم أنه في يوم القيامة تزول السماوات السبع والأرضون ولا يبقى إلا الجنة والنار فهي عالية وأعلاها ووسطها الفردوس الذي فوقه عرش الرب جل وعلا‏.‏ ‏{‏لاَّ تَسْمَعُ فِيهَا لاغِيَةً‏}‏ أي لا تسمع في هذه الجنة قولةً لاغية، أو نفسًا لاغية، بل كل ما فيها جد، كل ما فيها سلام، كل ما فيها تسبيح، وتحميد، وتهليل، وتكبير، يلهمون التسبيح كما يلهمون النفس، أي أنه لا يشق عليهم ولا يتأثرون به، فهم دائمًا في ذكر الله عز وجل، وتسبيح وأنس وسرور، يأتي بعضهم إلى بعض يزور بعضهم بعضًا في حبور لا نظير له‏.‏ ‏{‏فِيهَا عَيْنٌ جَارِيَةٌ‏}‏ وهذه العين بين الله عز وجل أنها أنهار ‏{‏فِيهَا أَنْهَارٌ مِّن مَّاء غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِن لَّبَنٍ لَّمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِّنْ خَمْرٍ لَّذَّةٍ لِّلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِّنْ عَسَلٍ مُّصَفًّى‏}‏ ‏[‏محمد‏:‏ 15‏]‏‏.‏ ‏{‏جَارِيَةٌ‏}‏ أي تجري حيث أراد أهلها لا تحتاج إلى حفر ساقية، ولا إقامة أخدود كما قال ابن القيم رحمه الله‏:‏ أنهارها في غير أخدود جرت سبحان ممسكها عن الفيضان ‏{‏فِيهَا سُرُرٌ مَّرْفُوعَةٌ وَأَكْوَابٌ مَّوْضُوعَةٌ وَنَمَارِقُ مَصْفُوفَةٌ وَزَرَابِيُّ مَبْثُوثَةٌ‏}‏ انظر للتقابل ‏{‏فِيهَا سُرُرٌ مَّرْفُوعَةٌ‏}‏ عالية يجلسون عليها يتفكهون ‏{‏هُمْ وَأَزْوَاجُهُمْ فِي ظِلالٍ عَلَى الأَرَائِكِ مُتَّكِؤُونَ‏}‏ ‏[‏يس‏:‏ 56‏]‏‏.‏ ‏{‏وَأَكْوَابٌ مَّوْضُوعَةٌ‏}‏ الأكواب جمع كوب وهو الكأس ونحوه ‏{‏مَّوْضُوعَةٌ‏}‏ يعني ليست مرفوعة عنهم، بل هي موضوعة لهم متى شاءوا شربوا فيها من هذه الأنهار الأربعة التي سبق ذكرها‏.‏ ‏{‏وَنَمَارِقُ مَصْفُوفَةٌ‏}‏ النمارق جمع نمرقة وهي الوسادة أو ما يتكىء عليه‏.‏ ‏{‏مَصْفُوفَةٌ‏}‏ على أحسن وجه تلتذ العين بها قبل أن يلتذ البدن بالاتكاء إليها‏.‏ ‏{‏وَزَرَابِيُّ مَبْثُوثَةٌ‏}‏ الزرابي أعلى أنواع الفرش ‏{‏مَبْثُوثَةٌ‏}‏ منشورة في كل مكان، ولا تظن أن هذه النمارق، وهذه الأكواب، وهذه السرر، وهذه الزرابي لا تظن أنها تشبه ما في الدنيا؛ لأنها لو كانت تشبه ما في الدنيا لكنا نعلم نعيم الاخرة، ونعلم حقيقته لكنها لا تشبهه لقول الله تعالى‏:‏ ‏{‏فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاء بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ‏}‏ ‏[‏السجدة‏:‏ 17‏]‏‏.‏ إنما الأسماء واحدة والحقائق مختلفة، ولهذا قال ابن عباس رضي الله عنهما‏:‏ ‏(‏ليس في الاخرة مما في الدنيا إلا الأسماء فقط‏)‏، فنحن لا نعلم حقيقة هذه النعم المذكورة في الجنة وإن كنا نشاهد ما يوافقها في الاسم في الدنيا لكنه فرق بين هذا وهذا‏.‏

{‏أَفَلا يَنظُرُونَ إِلَى الإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ وَإِلَى السَّمَاء كَيْفَ رُفِعَتْ وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ وَإِلَى الأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنتَ مُذَكِّرٌ لَّسْتَ عَلَيْهِم بِمُصَيْطِرٍ إِلاَّ مَن تَوَلَّى وَكَفَرَ فَيُعَذِّبُهُ اللَّهُ الْعَذَابَ الأَكْبَرَ إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ‏}‏‏.‏

لما قرر الله عز وجل في هذه السورة حديث الغاشية وهي يوم القيامة، وبين أن الناس ينقسمون إلى قسمين‏:‏ وجوه خاشعة عاملة ناصبة تصلى نارًا حامية، ووجوه ناعمة لسعيها راضية، وبين جزاء هؤلاء وهؤلاء، قال‏:‏ ‏{‏أَفَلا يَنظُرُونَ إِلَى الإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ‏}‏ وهذا الاستفهام للتوبيخ، أي إن الله يوبخ هؤلاء الذين أنكروا ما أخبر الله به عن يوم القيامة، وعن الثواب والعقاب، أنكر عليهم إعراضهم عن النظر في آيات الله تعالى التي بين أيديهم، وبدأ بالإبل؛ لأن أكثر ما يلابس الناس في ذلك الوقت الإبل، فهم يركبونها، ويحلبونها، ويأكلون لحمها، وينتفعون من أوبارها إلى غير ذلك من المنافع فقال‏:‏ ‏{‏أَفَلا يَنظُرُونَ إِلَى الإِبِلِ‏}‏ وهي الأباعر ‏{‏كَيْفَ خُلِقَتْ‏}‏ يعني كيف خلقها الله عز وجل، هذا الجسم الكبير المتحمل، تجد البعير تمشي مسافات طويلة لا يبلغها الإنسان إلا بشق الأنفس وهي متحملة، وتجد البعير أيضًا يحمل الأثقال وهو بارك ثم يقوم في حمله لا يحتاج إلى مساعدة، والعادة أن الحيوان لا يكاد يقوم إذا حُّمل وهو بارك لكن هذه الإبل أعطاها الله عز وجل قوة وقدرة من أجل مصلحة الإنسان، لأن الإنسان لا يمكن أن يحمل عليها وهي قائمة لعلوها، ولكن الله تعالى يسر لهم الحمل عليها وهي باركة ثم تقوم بحملها، وكما قال الله تعالى في سورة يس‏:‏ ‏{‏وَلَهُمْ فِيهَا مَنَافِعُ وَمَشَارِبُ أَفَلا يَشْكُرُونَ‏}‏ ‏[‏يس‏:‏ 73‏]‏‏.‏ منافعها كثيرة لا تحصى، وأهلها الذين يمارسونها أعلم منا بذلك، فلهذا قال‏:‏ ‏{‏أَفَلا يَنظُرُونَ إِلَى الإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ‏}‏ ولم يذكر سواها من الحيوان كالغنم والبقر والظبي وغيرها لأنها أعم الحيوانات نفعًا وأكثرها مصلحة للعباد‏.‏ ‏{‏وَإِلَى السَّمَاء كَيْفَ رُفِعَتْ‏}‏ يعني وينظرون إلى السماء كيف رفعت بما فيها من النجوم، والشمس، والقمر وغير هذا من الآيات العظيمة التي لم يتبين كثير منها إلى الان، ولا نقول إن هذه الآيات السماوية هي كل الآيات، بل لعل هناك آيات كبيرة عظيمة لا ندركها حتى الان، وقوله‏:‏ ‏{‏كَيْفَ رُفِعَتْ‏}‏ أي رفعت هذا الارتفاع العظيم، ومع هذا فليس لها عمد مع أن العادة أن السقوف لا تكون إلا على عمد، لكن هذا السقف العظيم المحفوظ قام على غير عمد ‏{‏اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا‏}‏ ‏[‏الرعد‏:‏ 2‏]‏‏.‏ ‏{‏وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ‏}‏ هذه الجبال العظيمة التي تحمل الصخور والقطع المتجاورات المتباينات، الجبال مكونة من أحجار كثيرة وأنواع كثيرة، فيها المعادن المتنوعة وهي متجاورة ومع ذلك تجد مثلًا هذا الخط في وسط الصخر تجده يشتمل على معادن لا توجد فيما قرب منه من هذا الصخر، ويعرف هذا علماء طبقات الأرض ‏(‏الجيولوجيا‏)‏ كيف نصب الله هذه الجبال العظيمة، ونصبها جل وعلا بهذا الارتفاع لتكون رواسي في الأرض لئلا تميد بالناس، لولا أن الله عز وجل خلق هذه الجبال لمادت الأرض بأهلها، لأن الأرض في وسط الماء، الماء محيط بها من كل جانب، وما ظنك بكرة تجعلها في وسط ماء سوف تتحرك وتضطرب، وتتدحرج أحيانًا، وتنقلب أحيانًا لكن الله جعل هذه الجبال رواسي تمسك الأرض كما تمسك الأطناب الخيمة، وهي راسية ثابتة على ما يحصل في الأرض من الأعاصير العظيمة التي تهدم البنايات التي بناها الادميون لكن هذه الجبال لا تتزحزح راسية ولو جاءت الأعاصير العظيمة، بل إن من فوائدها‏:‏ أنها تحجب الأعاصير العظيمة البالغة التي تنطلق من البحار، أو من غير البحار لئلا تعصف بالناس، وهذا شيء مشاهد تجد الذين في سفوح الجبال وتحتها في الأرض تجدهم في مأمن من أعاصير الرياح العظيمة التي تأتي من خلف الجبل، ففيها فوائد عظيمة، وهي رواسي لو أن الخلق اجتمعوا على أن يضعوا سلسلة مثل هذه السلسلة من الجبال ما استطاعوا إلى هذا سبيلًا مهما بلغت صنعتهم، وقوتهم، وقدرتهم، وطال أمدهم فإنهم لا يستطيعون أن يأتوا بمثل هذه الجبال‏.‏ وقد قال بعض العلماء‏:‏ إن هذه الجبال راسية في الأرض بمقدار علوها في السماء، يعني أن الجبل له جرثومة وجذر في داخل الأرض في عمق يساوي ارتفاعه في السماء، وليس هذا ببعيد أن يُمكّن الله لهذا الجبل في الأرض حتى يكون بقدر ما هو في السماء لئلا تزعزعه الرياح فلهذا يقول الله عز وجل‏:‏ ‏{‏وَأَلْقَى فِي الأَرْضِ رَوَاسِيَ أَن تَمِيدَ بِكُمْ وَأَنْهَارًا وَسُبُلاً لَّعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ وَعَلامَاتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏ 15، 16‏]‏‏.‏ يقول عز وجل‏:‏ ‏{‏وَإِلَى الأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ‏}‏ أي وانظروا كيف سطح الله هذه الأرض الواسعة، وجعلها سطحًا واسعًا ليتمكن الناس من العيش فيه بالزراعة والبناء وغير هذا، وما ظنكم لو كانت الأرض صببًا غير مسطحة يعني مثل الجبال يرقى لها ويصعد لكانت شاقة، ولما استقر الناس عليها، لكن الله عز وجل جعلها سطحًا ممهدًا للخلق، وقد استدل بعض العلماء بهذه الآية على أن الأرض ليست كروية بل سطح ممتد لكن هذا الاستدلال فيه نظر، لأن هناك آيات تدل على أن الأرض كروية، والواقع شاهد بذلك فيقول الله عز وجل‏:‏ ‏{‏يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهَارِ وَيُكَوِّرُ النَّهَارَ عَلَى اللَّيْلِ‏}‏ ‏[‏الزمر‏:‏ 5‏]‏‏.‏ والتكوير التدوير، ومعلوم أن الليل والنهار يتعاقبان على الأرض، فإذا كانا مكورين لزم أن تكون الأرض مكورة، وقال الله تبارك وتعالى‏:‏ ‏{‏إِذَا السَّمَاء انشَقَّتْ وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ وَإِذَا الأَرْضُ مُدَّتْ وَأَلْقَتْ مَا فِيهَا وَتَخَلَّتْ‏}‏ ‏[‏الانشقاق‏:‏ 1 - 4‏]‏‏.‏ فقال‏:‏ ‏{‏وَإِذَا الأَرْضُ مُدَّتْ‏}‏ وقد جاء في الحديث أنها يوم القيامة تمد مد الأديم أي مد الجلد حتى لا يكون فيها جبال، ولا أودية، ولا أشجار، ولا بناء، يذرها الرب عز وجل قاعًا صفصفًا لا ترى فيها عوجًا ولا أمتًا، فقوله‏:‏ ‏{‏إِذَا السَّمَاء انشَقَّتْ‏}‏ والسماء لا تنشق إلا يوم القيامة وهي الان غير منشقة إذًا قوله‏:‏ ‏{‏وَإِذَا الأَرْضُ مُدَّتْ وَأَلْقَتْ مَا فِيهَا وَتَخَلَّتْ‏}‏ يعني يوم القيامة فهي إذًا الان غير ممدودة، إذًا مكورة، والواقع المحسوس المتيقن الان أنها كروية لا شك، والدليل على هذا أنك لو سرت بخط مستقيم من هنا من المملكة متجهًا غربًا لأتيت من ناحية الشرق، تدور على الأرض ثم تأتي إلى النقطة التي انطلقت منها، وكذلك بالعكس لو سرت متجهًا نحو المشرق وجدتك راجعًا إلى النقطة التي قمت منها من نحو المغرب، إذًا فهي الان أمر لا شك فيه أنها كروية‏.‏ فإذا قال الإنسان‏:‏ إذا كانت كما ذكرت كروية فكيف تثبت المياه، مياه البحار عليها وهي كروية‏؟‏ نقول في الجواب عن ذلك‏:‏ الذي أمسك السماء أن تقع على الأرض إلا بإذنه يمسك البحار أن تفيض على الناس فتغرقهم، والله على كل شيء قدير، قال بعض أهل العلم‏:‏ ‏{‏وَإِذَا الْبِحَارُ سُجِّرَتْ‏}‏ أي حبست ومنعت من أن تفيض على الناس كالشيء الذي يُسجر ‏(‏يربط‏)‏، وعلى كل حال القدرة الإلهية لا يمكن لنا أن نعارض فيها‏.‏ نقول قدرة الله عز وجل أمسكت هذه البحار أن تفيض على أهل الأرض فتغرقهم، وإن كانت الأرض كروية‏.‏ ثم قال عز وجل لما بين من آياته هذه الآيات الأربع‏:‏ الإبل، والسماء، والجبال، والأرض قال لنبيه صلى الله عليه وآله وسلم ‏{‏فَذَكِّرْ‏}‏ أمره الله أن يذكر ولم يخصص أحدًا بالتذكير، أي لم يقل ذكّر فلانًا وفلانًا فالتذكير عام، لأن الرسول صلى الله عليه وعلى آله وسلم بُعث إلى الناس كافة، ذكّر كل أحد في كل حال وفي كل مكان، فذكر النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - وذكّر خلفاؤه من بعده الذين خلفوه في أمته في العلم والعمل والدعوة، ولكن هذه الذكرى هل ينتفع بها كل الناس‏؟‏ الجواب‏:‏ لا، ‏{‏فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنفَعُ الْمُؤْمِنِينَ‏}‏ ‏[‏الذاريات‏:‏ 55‏]‏‏.‏ أما غير المؤمن فإن الذكرى تقيم عليه الحجة لكن لا تنفعه، لا تنفع الذكرى إلا المؤمن، ونقول إذا رأيت قلبك لا يتذكر بالذكرى فاتهمه، لأن الله يقول‏:‏ ‏{‏وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنفَعُ الْمُؤْمِنِينَ‏}‏ فإذا ذُكرت ولم تجد من قلبك تأثرًا وانتفاعًا فاتهم نفسك، واعلم أن فيك نقص إيمان، لأنه لو كان إيمانك كاملًا لانتفعت بالذكرى ، لأن الذكرى لابد أن تنفع المؤمنين‏.‏ ‏{‏إِنَّمَا أَنتَ مُذَكِّرٌ‏}‏ يعني أن محمدًا - صلى الله عليه وآله وسلم - ليس إلا مذكرًا مبلغًا، وأماالهداية فبيد الله عز وجل، ‏{‏لَّيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَاء‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 272‏]‏‏.‏ وقد قام صلى الله عليه وعلى آله وسلم بالذكرى والتذكير إلى آخر رمق من حياته حتى أنه في آخر حياته يقول‏:‏ ‏(‏الصلاة الصلاة وما ملكت أيمانكم‏)‏، حتى جعل يغرغر بها - صلى الله عليه وآله وسلم - فذكّر صلوات الله وسلامه عليه منذ بعث وقيل له ‏{‏قُمْ فَأَنذِرْ‏}‏ ‏[‏المدثر‏:‏ 2‏]‏‏.‏ إلى أن توفاه الله، لم يأل جهدًا في التذكير في كل موقف، وفي كل زمان على ما أصابه من الأذى من قومه ومن غير قومه، والذي قرأ التاريخ - السيرة النبوية - يعرف ما جرى له من أهل مكة من قومه الذين هم أقرب الناس إليه، والذين كانوا يعرفونه، ويلقبونه بالأمين يلقبونه بذلك ويثقون به حتى حكّموه في وضع الحجر الأسود في الكعبة حينما هدموا الكعبة ووصلوا إلى حد الحجر قالوا من ينصب الحجر، فتنازعوا بينهم كل قبيلة تقول نحن الذين نتولى وضع الحجر في مكانه، حتى جاء النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم وحكموه فيما بينهم وأمر أن يوضع رداء وأن تمسك كل طائفة من هذه القبيلة أن يمسك كل واحد من هذه القبائل بطرف من هذا الرداء حتى يرفعوه، فإذا حاذوا محله أخذه هو بيده الكريمة ونصبه في مكانه، فكانوا يلقبونه بالأمين لكن لما أكرمه الله تعالى بالنبوة انقلبت المعايير، فصاروا يقولون إنه ساحر وكاهن وشاعر ومجنون وكذاب، ورموه بكل سب، فالرسول - صلى الله عليه وآله وسلم - يذكّر وليس عليه إلا التذكير، ومن هنا نأخذ أن الهداية بيد الله، لا يمكن أن نهدي أقرب الناس إلينا ‏{‏إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَاء‏}‏ ‏[‏القصص‏:‏ 56‏]‏‏.‏ فلا تجزع إذا ذكّرنا إنسانًا ووجدناه يعاند، أو يخاصم، أو يقول أنا أعمل ما شئت، أو ما أشبه ذلك‏.‏ قال الله تعالى لنبيه‏:‏ ‏{‏لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ أَلاَّ يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ‏}‏ ‏[‏الشعراء‏:‏ 3‏]‏‏.‏ لا تهلك نفسك إذا لم يؤمنوا، إيمانهم لهم وكفرهم ليس عليك ولهذا قال‏:‏ ‏{‏لَّسْتَ عَلَيْهِم بِمُصَيْطِرٍ‏}‏ يعني ليس لك سلطة عليهم، ولا سيطرة عليهم، السلطة لله رب العالمين، أنت عليك البلاغ بلغ، والسلطان والسيطرة لله عز وجل‏.‏ ‏{‏إِلاَّ مَن تَوَلَّى وَكَفَرَ فَيُعَذِّبُهُ اللَّهُ الْعَذَابَ الأَكْبَرَ‏}‏ قال العلماء‏:‏ ‏{‏إلاَّ‏}‏ هنا بمعنى لكن يعني أن الاستثناء في الآية منقطع وليس بمتصل، والفرق بين المتصل والمنقطع أن المتصل يكون فيه المستثنى من جنس المستنثى منه، والمنقطع يكون أجنبيًّا منه، فمثلًا لو قلنا إنه متصل لصار معنى الآية ‏(‏لست عليهم بمصيطر إلا من تولى وكفر فأنت عليهم مصيطر‏)‏ وليس الأمر كذلك بل المعنى‏:‏ لكن من تولى وكفر بعد أن ذكرته فيعذبه الله العذاب الأكبر‏.‏ فمن تولى وكفر بعد أن بلغه الوحي النازل على رسول الله - صلى الله عليه وسلّم - فإنه سيعذب ‏{‏إِلاَّ مَن تَوَلَّى وَكَفَرَ‏}‏ التولي يعني الإعراض فلا يتجه للحق، ولا يقبل الحق، ولا يسمع الحق، حتى لو سمعه بأذنه لم يسمعه بقلبه كما قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلاَ تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنتُمْ تَسْمَعُونَ وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ قَالُوا سَمِعْنَا وَهُمْ لاَ يَسْمَعُونَ‏}‏ ‏[‏الأنفال‏:‏ 20، 21‏]‏‏.‏ أي لا ينقادون‏.‏ فهنا يقول عز وجل‏:‏ ‏{‏إِلاَّ مَن تَوَلَّى وَكَفَرَ‏}‏ ‏{‏تَوَلَّى‏}‏ أعرض، ‏{‏وَكَفَرَ‏}‏ أي استكبر ولم يقبل ما جاء به الرسول - صلى الله عليه وآله وسلم - ‏{‏فَيُعَذِّبُهُ اللَّهُ الْعَذَابَ الأَكْبَرَ‏}‏ والعذاب الأكبر يوم القيامة وهنا قال ‏{‏الأَكْبَرَ‏}‏ ولم يذكر المفضل عليه يعني لم يقل الأكبر من كذا فهو قد بلغ الغاية في الكبر والمشقة والإهانة، وكل من تولى وكفر فإن الله يعذبه العذاب الأكبر‏.‏ وهناك عذاب أصغر في الدنيا قد يبتلى المتولي المعرض بأمراض في بدنه، في عقله، في أهله، في ماله، في مجتمعه، وكل هذا بالنسبة لعذاب النار عذاب أصغر، لكن العذاب الأكبر إنما يكون يوم القيامة ولهذا قال بعدها‏:‏ ‏{‏إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ‏}‏ أي مرجعهم، فالرجوع إلى الله مهما فر الإنسان فإنه راجع إلى ربه عز وجل لو طالت به الحياة راجع إلى الله، ولهذا قال تعالى‏:‏ ‏{‏يَا أَيُّهَا الإِنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلاقِيهِ‏}‏ ‏[‏الانشقاق‏:‏ 6‏]‏‏.‏ فاستعد يا أخي لهذه الملاقاة لأنك سوف تلاقي ربك، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم‏:‏ ‏(‏ما منكم من أحد إلا سيكلمه ربه ليس بينه وبينه ترجمان - مباشرة بدون مترجم يكلمه الله يوم القيامة - فينظر أيمن منه فلا يرى إلا ما قدم، وينظر أشأم منه - يعني على اليسار - فلا يرى إلا ما قدم، وينظر تلقاء وجهه فلا يرى إلا النار تلقاء وجهه، فاتقوا النار ولو بشق تمرة‏)‏، كلنا سيخلو به ربه عز وجل يوم القيامة ويقرره بذنوبه، يقول‏:‏ فعلت كذا في يوم كذا، حتى يقر ويعترف، فإذا أقر واعترف قال الله تعالى‏:‏ ‏(‏قد سترتها عليك في الدنيا وأنا أغفرها لك اليوم‏)‏، وكم من ذنوب سترها الله عز وجل، كم من ذنوب اقترفناها لم يعلم بها أحد ولكن الله تعالى علم بها، فموقفنا من هذه الذنوب أن نستغفر الله عز وجل، وأن نكثر من الأعمال الصالحة المكفرة للسيئات حتى نلقى الله عز وجل ونحن على ما يرضيه سبحانه وتعالى‏.‏ ‏{‏ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ‏}‏ نحاسبهم، قال العلماء‏:‏ وكيفية الحساب ليس مناقشة يناقش الإنسان، لأنه لو يناقش هلك، لو يناقشك الله عز وجل على كل حساب هلكت، لو ناقشك في نعمة من النعم كالبصر لا يمكن أن تجد أي شيء تعمله يقابل نعمة البصر، نعمة النفس، الذي يخرج ويدخل بدون أي مشقة، وبدون أي عناء، الإنسان يتكلم وينام، يأكل ويشرب، ومع ذلك لا يحس بالنفس، ولا يعرف قدر النفس إلا إذا أصيب بما يمنع النفس، حينئذ يذكر نعمة الله، لكن مادام في عافية يقول هذا شيء طبيعي، لكن لو أنه أصيب بكتم النفس لعرف قدر النعمة، فلو نوقش لهلك كما قال النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - لعائشة‏:‏ ‏(‏من نوقش الحساب هلك‏)‏ أو قال ‏"‏عذب‏"‏، لكن كيفية الحساب‏:‏ أما المؤمن فإن الله تعالى يخلو به بنفسه ليس عندهما أحد ويقرره بذنوبه فعلت كذا فعلت كذا، فعلت كذا حتى إذا أقر بها قال الله تعالى‏:‏ ‏(‏قد سترتها عليك في الدنيا وأنا أغفرها لك اليوم‏)‏، أما الكفار فلا يحاسبون هذا الحساب لأنه ليس لهم حسنات تمحو سيئاتهم لكنها تحصى عليهم أعمالهم، ويقررون بها أمام العالم، ويحصون بها، وينادى على رؤوس الأشهاد ‏{‏هَؤُلاء الَّذِينَ كَذَبُواْ عَلَى رَبِّهِمْ أَلاَ لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 18‏]‏‏.‏ - نعوذ بالله من الخذلان - وبهذا ينتهي الكلام على هذه السورة العظيمة وهي إحدى السورتين اللتين كان النبي - صلى الله عليه وسلّم - يقرأ بهما في المجامع الكبيرة، فقد كان يقرأ في صلاتي العيدين ‏{‏سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى‏}‏ و‏{‏هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ‏}‏ وكذلك في صلاة الجمعة، ويقرأ أحيانًا في العيدين ‏{‏ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ‏}‏ و‏{‏اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانشَقَّ الْقَمَرُ‏}‏، وفي الجمعة سورة الجمعة والمنافقين، ينوع مرة هذا، ومرة هذا، نسأل الله سبحانه وتعالى أن يجعلنا ممن تكون وجوههم ناعمة لسعيها راضية، وأن يتولانا بعنايته في الدنيا والاخرة، إنه على كل شيء قدير‏.‏

 تفسير سورة الفجر

{‏بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ وَالْفَجْرِ وَلَيَالٍ عَشْرٍ وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ وَاللَّيْلِ إِذَا يَسْرِ هَلْ فِي ذَلِكَ قَسَمٌ لِّذِي حِجْرٍ أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلادِ وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِ وَفِرْعَوْنَ ذِي الأَوْتَادِ الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلادِ فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَادَ فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ‏}‏‏.‏

البسملة‏:‏ تقدم الكلام عليها‏.‏ ‏{‏وَالْفَجْرِ وَلَيَالٍ عَشْرٍ وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ وَاللَّيْلِ إِذَا يَسْرِ‏}‏ كل هذه إقسامات بالفجر، وليال عشر، والشفع والوتر، والليل إذا يسر، خمسة أشياء أقسم الله تعالى بها، الأول‏:‏ الفجر ‏{‏وَالْفَجْرِ‏}‏ هو النـور الساطـع الذي يكون في الأفق الشرقي قرب طلوع الشمس، وبينـه وبين طلوع الشمس ما بين ساعة واثنتين وثلاثين دقيقة، إلى ساعة وسبع عشرة دقيقة، ويختلف باختلاف الفصول، فأحيانًا تطول الحصـة مـا بين الفجر وطلوع الشمس، وأحيانًا تقصر حسب الفصول، والفجر فجران‏:‏ فجر صادق، وفجر كاذب، والمقصود بالفجر هنا الفجر الصادق، والفرق بين الفجر الصادق والكاذب من ثلاثة وجوه‏:‏ الوجه الأول‏:‏ الفجر الكاذب يكون مستطيلًا في السماء ليس عرضًا ولكنه طولًا، وأما الفجر الصادق يكون عرضًا يمتد من الشمال إلى الجنوب‏.‏ الفرق الثاني‏:‏ أن الفجر الصادق لا ظلمة بعده، بل يزداد الضياء حتى تطلع الشمس، وأما الفجر الكاذب فإنه يحدث بعده ظلمة بعد أن يكون هذا الضياء، ولهذا سمي كاذبًا؛ لأنه يضمحل ويزول‏.‏ الفرق الثالث‏:‏ أن الفجر الصادق متصل بالأفق، أما الفجر الكاذب فبينه وبين الأفق ظلمة، هذه ثلاثة فروق آفاقية حسية يعرفها الناس إذا كانوا في البر، أما في المدن فلا يعرفون ذلك، لأن الأنوار تحجب هذه العلامات‏.‏ وأقسم الله بالفجر لأنه ابتداء النهار، وهو انتقال من ظلمة دامسة إلى فجر ساطع، وأقسم الله به لأنه لا يقدر على الإتيان بهذا الفجر إلا الله عز وجل كما قال الله تبارك وتعالى‏:‏ ‏{‏قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِن جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُم بِضِيَاء أَفَلا تَسْمَعُونَ‏}‏ ‏[‏القصص‏:‏ 71‏]‏ وأقسم الله بالفجر لأنه يترتب عليه أحكام شرعية، مثل‏:‏ إمساك الصائم، فإنه إذا طلع الفجر وجب على الصائم أن يمسك إذا كان صومه فرضًا أو نفلًا إذا أراد أن يتم صومه، ويترتب عليه أيضًا‏:‏ دخول وقت صلاة الفجر، وهما حكمان شرعيان عظيمان، أهمهما دخول وقت الصلاة، أي أنه يجب أن نراعي الفجر من أجل دخول وقت الصلاة أكثر مما نراعيه من أجل الإمساك في حالة الصوم، لأننا في الإمساك عن المفطرات في الصيام لو فرضنا أننا أخطأنا فإننا بنينا على أصل وهو بقاء الليل، لكن في الصلاة لو أخطأنا وصلينا قبل الفجر لم نكن بنينا على أصل، لأن الأصل بقاء الليل وعدم دخول وقت الصلاة، ولهذا لو أن الإنسان صلى الفجر قبل دخول وقت الصلاة بدقيقة واحدة فصلاته نفل ولا تبرأ بها ذمته، ومن ثَمَّ ندعوكم إلى ملاحظة هذه المسألة، أعني العناية بدخول وقت صلاة الفجر، لأن كثيرًا من المؤذنين يؤذنون قبل الفجر وهذا غلط، لأن الأذان قبل الوقت ليس بمشروع لقول النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم‏:‏ ‏(‏إذا حضرت الصلاة فليؤذن لكم أحدكم‏)‏، ويكون حضور الصلاة إذا دخل وقتها، فلو أذن الإنسان قبل دخول وقت الصلاة فأذانه غير صحيح يجب عليه الإعادة، والعناية بدخول الفجر مهمة جدًا من أجل مراعاة وقت الصلاة‏.‏ وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَلَيَالٍ عَشْرٍ‏}‏ قيل المراد بـ‏{‏لَيَالٍ عَشْرٍ‏}‏ عشر ذي الحجة، وأطلق على الأيام ليالي، لأن اللغة العربية واسعة، قد تطلق الليالي ويراد بها الأيام، والأيام يراد بها الليالي، وقيل المراد بـ‏{‏لَيَالٍ عَشْرٍ‏}‏ ليال العشر الأخيرة من رمضان، أما على الأول الذين يقولون المراد بالليال العشر عشر ذي الحجة، فلأن عشر ذي الحجة أيام فاضلة قال فيها النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم‏:‏ ‏(‏ما من أيام العمل الصالح فيهن أحب إلى الله من هذه الأيام العشر‏"‏ قالوا‏:‏ ولا الجهاد في سبيل الله‏؟‏ قال‏:‏ ‏"‏ولا الجهاد في سبيل الله إلا رجل خرج بنفسه وماله فلم يرجع من ذلك بشيء‏)‏‏.‏ وأما الذين قالوا‏:‏ إن المراد بالليال العشر هي ليال عشر رمضان الأخيرة، فقالوا‏:‏ إن الأصل في الليالي أنها الليالي وليست الأيام، وقالوا‏:‏ أن ليال العشر الأخيرة من رمضان فيها ليلة القدر التي قال الله عنها ‏{‏خَيْرٌ مِّنْ أَلْفِ شَهْرٍ‏}‏، وقال‏:‏ ‏{‏إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُّبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنذِرِينَ فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ‏}‏ ‏[‏الدخان‏:‏ 3 ، 4‏]‏، وهذا القول أرجح من القول الأول، وإن كان القول الأول هو قول الجمهور، لكن اللفظ لا يسعف قول الجمهور، وإنما يرجح القول الثاني أنها الليالي العشر الأواخر من رمضان، وأقسم الله بها لشرفها، ولأن فيها ليلة القدر، ولأن المسلمين يختمون بها شهر رمضان الذي هو وقت فريضة من فرائض الإسلام وأركان الإسلام، فلذلك أقسم الله بهذه الليالي‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ‏}‏ قيل‏:‏ إن المراد به كل الخلق، فالخلق إما شفـع وإما وتر، والله عز وجل يقول‏:‏ ‏{‏وَمِن كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ‏}‏‏.‏ ‏[‏الذاريات‏:‏ 49‏]‏ والعبادات إما شفع وإما وتر، فيكون المراد بالشفع والوتر كل ما كان مخلوقًا من شفع ووتر، وكل ما كان مشروعًا من شفع ووتر، وقيل‏:‏ المراد بالشفع الخلق كلهم، والمراد بالوتر الله عز وجل‏.‏ واعلم أن قوله والوتر فيها قراءتان صحيحتان ‏(‏والوِتر‏)‏ و‏(‏الوَتر‏)‏ يعني لو قلت ‏(‏والشفع والوِتر‏)‏ صح ولو قلت ‏(‏والشفع والوَتْر‏)‏ صح أيضًا، فقالوا إن الشفع هو الخلق؛ لأن المخلوقات كلها مكونة من شيئين ‏{‏وَمِن كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ‏}‏ والوَتْر أو الوِتر هو الله لقول النبي - صلى الله عليه وسلّم - ‏:‏ ‏(‏إن الله وتر يحب الوتر‏)‏، وإذا كانت الآية تحتمل معنيين ولا منافاة بينهما فلتكن لكل المعاني التي تحتملها الآية، وهذه القاعدة في علم التفسير أن الآية إذا كانت تحتمل معنيين وأحدهما لا ينافي الاخر فهي محمولة على المعنيين جميعًا‏.‏ قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَاللَّيْلِ إِذَا يَسْرِ‏}‏ أقسم الله أيضًا بالليل إذا يسري، والسري هو السير في الليل، والليل يسير يبدأ بالمغرب وينتهي بطلوع الفجر فهو يمشي زمنًا لا يتوقف، فهو دائمًا في سريان، فأقسم الله به لما في ساعاته من العبادات كصلاة المغرب، والعشاء، وقيام الليل، والوتر وغير ذلك، ولأن في الليل مناسبة عظيمة وهي أن الله عز وجل ينزل كل ليلة إلى السماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الاخر فيقول‏:‏ ‏(‏من يسألني فأعطيه، من يدعوني فأستجيب له، من يستغفرني فأغفر له‏)‏ ولهذا نقول‏:‏ إن الثلث الآخر من الليل وقت إجابة، فينبغي أن ينتهز الإنسان هذه الفرصة فيقوم لله عز وجل يتهجد ويدعو الله سبحانه بما شاء من خير الدنيا والاخرة لعله يصادف ساعة إجابة ينتفع بها في دنياه وأخراه‏.‏ ‏{‏هَلْ فِي ذَلِكَ قَسَمٌ لِّذِي حِجْرٍ‏}‏ لذي عقل، ‏{‏أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ‏}‏ الخطاب هنا لكل من يوجه إليه هذا الكتاب العزيز وهم البشر كلهم بل والجن أيضًا ألم ترى أيها المخاطب ‏{‏كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ‏}‏ يعني ما الذي فعل بهم‏؟‏ وعاد قبيلة معروفة في جنوب الجزيرة العربية، أرسل الله تعالى إليهم هودًا - صلى الله عليه وآله وسلم - فبلغهم الرسالة ولكنهم عتوا وبغوا وقالوا من أشد منا قوة قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ‏}‏ ‏[‏فصلت‏:‏ 15‏]‏‏.‏ فهم افتخروا في قوتهم ولكن الله بين أنهم ضعفاء أمام قوة الله ولهذا قال‏:‏ ‏{‏أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ‏}‏ وعبّر - والله أعلم - بقوله ‏{‏الَّذِي خَلَقَهُمْ‏}‏ ليبين ضعفهم وأنه جل وعلا أقوى منهم، لأن الخالق أقوى من المخلوق ‏{‏أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا فِي أَيَّامٍ نَّحِسَاتٍ لِّنُذِيقَهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الآخِرَةِ أَخْزَى وَهُمْ لا يُنصَرُونَ‏}‏‏.‏ ‏[‏فصلت‏:‏ 15، 16‏]‏‏.‏ والذي فعل الله بعاد أنه أرسل عليهم الريح العقيم سخرها عليهم سبع ليال وثمانية أيام حسومًا، فترى القوى فيها صرعى كأنهم أعجاز نخل خاوية، فأصبحوا لا يرى إلا مساكنهم، وهذا الاستفهام الذي لفت الله فيه النظر إلى ما فعل بهؤلاء يراد به الاعتبار يعني اعتبر أيها المكذب للرسول محمد - صلى الله عليه وسلّم - بهؤلاء كيف أُذيقوا هذا العذاب، وقد قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَا هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 83‏]‏‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏إِرَمَ‏}‏ هذه اسم للقبيلة، وقيل اسم للقرية، وقيل غير ذلك، فسواء كانت اسم للقبيلة أو اسم للقرية فإن الله تعالى نكل بهم نكالًا عظيمًا مع أنهم أقوياء‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏ذَاتِ الْعِمَادِ الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلادِ‏}‏ يعني أصحاب ‏{‏الْعِمَادِ‏}‏ الأبنية القوية ‏{‏الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلادِ‏}‏ أي لم يصنع مثلها في البلاد؛ لأنها قوية ومحكمة، وهذا هو الذي غرهم وقالوا‏:‏ مَن أشد منا قوة‏؟‏ وفي قوله‏:‏ ‏{‏الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلادِ‏}‏ مع أن الذي صنعها الادمي دليل على أن الادمي قد يوصف بالخلق فيقال خلق كذا، ومنه قول النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - في المصورين ‏(‏يقال لهم أحيوا ما خلقتم‏)‏، لكن الخلق الذي ينسب للمخلوق ليس هو الخلق المنسوب إلى الله‏.‏ الخلق المنسوب إلى الله إيجاد بعد عدم وتحويل وتغيير، أما الخلق المنسوب لغير الله فهو مجرد تحويل وتغيير، وأضرب لكم مثلًا‏:‏ هذا الباب من خشب، الذي خلق الخشب الله، ولا يمكن للبشر أن يخلقوه، لكن البشر يستطيع أن يحول جذوع الخشب وأغصان الخشب إلى أبواب إلى كرسي وما أشبه ذلك، فالخلق المنسوب للمخلوق ليس هو الخلق المنسوب للخالق؛ لأن الخلق المنسوب للخالق إيجاد من عدم وهذا لا يستطيعه أحد، والمنسوب للمخلوق تغير وتحويل يحول الشيء من صفة إلى صفة، أما أن يغير الذوات بمعنى يجعل الذهب فضة، أو يجعل الفضة حديدًا، أو ما أشبه ذلك فهذا مستحيل لا يمكن إلا لله وحده لا شريك له‏.‏ ثم قال‏:‏ ‏{‏وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِ‏}‏ ثمود هم قوم صالح ومساكنهم معروفة الان كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَلَقَدْ كَذَّبَ أَصْحَابُ الحِجْرِ الْمُرْسَلِينَ‏}‏ ‏[‏الحجر‏:‏ 80‏]‏‏.‏ في سورة ‏(‏الر‏)‏ ذكر الله أن ثمود كانوا في بلاد الحجر وهي معروفة مر عليها النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم في طريقه إلى تبوك وأسرع وقنّع رأسه - صلى الله عليه وسلّم - وقال‏:‏ ‏(‏لا تدخلوا على هؤلاء القوم المعذبين إلا أن تكونوا باكين، فإن لم تكونوا باكين فلا تدخلوا عليهم أن يصيبكم مثل ما أصابهم‏)‏، هؤلاء القوم أعطاهم الله قوة حتى صاروا يخرقون الجبال والصخور العظيمة ويصنعون منها بيوتًا ولهذا قال‏:‏ ‏{‏جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِ‏}‏ أي‏:‏ وادي ثمود، وهو معروف، هؤلاء أيضًا فعل الله بهم ما فعل من العذاب والنكال حيث قيل لهم تمتعوا في داركم ثلاثة أيام، ثم بعد الثلاثة الأيام أخذتهم الصيحة والرجفة فأصبحوا في ديارهم جاثمين، فعلينا أن نعتبر بحال هؤلاء المكذبين الذين صار مآلهم إلى الهلاك والدمار، وليُعلم أن هذه الأمة لن تُهلك بما أهلكت به الأمم السابقة بهذا العذاب العام، فإن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم سأل الله تعالى أن لا يهلكهم بسنة بعامة ولكن قد تهلك هذه الأمة بأن يجعل الله بأسهم بينهم، فتجري بينهم الحروب والمقاتلة، ويكون هلاك بعضهم على يد بعض، لا بشيء ينزل من السماء كما صنع الله تعالى بالأمم السابقة، ولهذا يجب علينا أن نحذر الفتن ما ظهر منها وما بطن، وأن نبتعد عن كل ما يثير الناس بعضهم على بعض، وأن نلزم دائمًا الهدوء، وأن نبتعد عن القيل والقال وكثرة السؤال، فإ ذلك مما نهى عنه النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وكم من كلمة واحدة صنعت ما تصنعه السيوف الباترة، فالواجب الحذر من الفتن، وأن نكون أمة متآلفة متحابة، يتطلب كل واحد منا العذر لأخيه إذا رأى منه ما يكره‏.‏ ‏{‏وَفِرْعَوْنَ‏}‏ فرعون هو الذي أرسل الله إليه موسى - صلى الله عليه وآله وسلم - وكان قد استذل بني إسرائيل في مصر، يذبح أبنائهم ويستحيي نسائهم، وقد اختلف العلماء في السبب الذي أدى به إلى هذه الفعلة القبيحة، لماذا يقتل الأبناء ويبقي النساء‏؟‏‏!‏ فقال بعض العلماء‏:‏ إن كهنته قالوا له إنه سيولد في بني إسرائيل رجل يكون هلاكك على يده فصار يقتل الأبناء ويستبقي النساء‏.‏ ومن العلماء من قال‏:‏ إنه فعل ذلك من أجل أن يضعف بني إسرائيل؛ لأن الأمة إذا قُتلت رجالها واستبقيت نسائها ذلت بلا شك، فالأول تعليل أهل الأثر، والثاني تعليل أهل النظر - أهل العقل - ولا يبعد أن يكون الأمران جميعًا قد صارا علة لهذا الفعل، ولكن بقدرة الله عز وجل أن هذا الرجل الذي كان هلاك فرعون على يده تربى في نفس بيت فرعون، فإن امرأة فرعون التقطته وربته في بيت فرعون، وفرعون استكبر في الأرض وعلا في الأرض وقال لقومه‏:‏ ‏(‏أنا ربكم الأعلى‏)‏ وقال لهم‏:‏ ‏(‏ما علمت لكم من إله غيري‏)‏ وقال لهم‏:‏ ‏(‏أم أنا خير من هذا الذي هو مهين‏)‏ يعني موسى ‏(‏ولا يكاد يبين‏)‏ قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ‏}‏ ‏[‏الزخرف‏:‏ 54‏]‏‏.‏ وقال لقومه مقررًا لهم‏:‏ ‏{‏أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الأَنْهَارُ تَجْرِي مِن تَحْتِي أَفَلا تُبْصِرُونَ‏}‏ ‏[‏الزخرف‏:‏ 51‏]‏‏.‏ افتخر بالأنهار وهي المياه فأغرق بالماء‏.‏ ‏{‏ذِي الأَوْتَادِ‏}‏ أي ذي القوة، لأن جنوده كانوا له بمنزلة الوتد، والوتد تربط به حبال الخيمة فتستقر وتثبت، فله جنود أمم عظيمة ما بين ساحر وكاهن وغير ذلك لكن الله سبحانه فوق كل شيء‏.‏ ‏{‏الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلادِ‏}‏ الطغيان مجاوزة الحد ومنه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّا لَمَّا طَغَى الْمَاء حَمَلْنَاكُمْ فِي الْجَارِيَةِ‏}‏ ‏[‏الحاقة‏:‏ 11‏]‏‏.‏ أي لما زاد الماء حملناكم في الجارية يعني بذلك السفينة التي صنعها نوح - صلى الله عليه وآله وسلم - فمعنى ‏{‏طَغَوْا فِي الْبِلادِ‏}‏ أي‏:‏ زادوا عن حدهم واعتدوا على عباد الله‏.‏ ‏{‏فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَادَ‏}‏ أي‏:‏ الفساد المعنوي، والفساد المعنوي يتبعه الفساد الحسي، ودليل ذلك قول الله تبارك وتعالى‏:‏ ‏{‏وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُواْ وَاتَّقَواْ لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاء وَالأَرْضِ وَلَكِن كَذَّبُواْ فَأَخَذْنَاهُم بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 96‏]‏‏.‏ ولهذا قال بعض العلماء في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَلاَ تُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاَحِهَا‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 56‏]‏‏.‏ قالوا‏:‏ لا تفسدوها بالمعاصي، وعلى هذا فيكون قوله ‏{‏فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَادَ‏}‏ أي‏:‏ الفساد المعنوي، لكن الفساد المعنوي يتبعه الفساد الحسي، وكان فيما سبق من الأمم أن الله تعالى يدمر هؤلاء المكذبين عن آخرهم، لكن هذه الأمة رفع الله عنها هذا النوع من العقوبة وجعل عقوبتها أن يكون بأسهم بينهم، يدمر بعضهم بعضًا، وعلى هذا فما حصل من المسلمين من اقتتال بعضهم بعضًا، ومن تدمير بعضهم بعضًا إنما هو بسبب المعاصي والذنوب، يسلط الله بعضهم على بعض ويكون هذا عقوبة من الله سبحانه وتعالى، ‏{‏فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ‏}‏ الصب معروف أنه يكون من فوق، والعذاب الذي أتى هؤلا من فوق من عند الله عز وجل ‏{‏سَوْطَ عَذَابٍ‏}‏ السوط هو العصا الذي يضرب به، ومعلوم أن الضرب بالعصا نوع عذاب، لكن هل هذاالسوط الذي صبه الله تعالى على عاد، وثمود، وفرعون، هل هو العصا المعروف الذي نعرف، أو أنه عصا عذاب أهلكهم‏؟‏ الجواب‏:‏ الثاني عصا عذاب أهلكهم وأبادهم‏.‏ نسأل الله تعالى أن يجعل لنا فيما سبق من الأمم عبرة نتعظ بها وننتفع بها، ونكون طائعين لله عز وجل غير طاغين، إنه على كل شيء قدير‏.‏ ‏{‏إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ‏}‏ الخطاب هنا للنبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، أو لكل من يتوجه إليه الخطاب، يبين الله عز وجل أنه بالمرصاد لكل من طغى واعتدى وتكبر، فإنه له بالمرصاد سوف يعاقبه ويؤاخذه، وهذا المعنى له نظائر في القرآن الكريم منها قوله تبارك وتعالى‏:‏ ‏{‏أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ دَمَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلِلْكَافِرِينَ أَمْثَالُهَا‏}‏ ‏[‏محمد‏:‏ 10‏]‏‏.‏ وكقول شعيب لقومه‏:‏ ‏{‏وَيَا قَوْمِ لاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شِقَاقِي أَن يُصِيبَكُم مِّثْلُ مَا أَصَابَ قَوْمَ نُوحٍ أَوْ قَوْمَ هُودٍ أَوْ قَوْمَ صَالِحٍ وَمَا قَوْمُ لُوطٍ مِّنكُم بِبَعِيدٍ‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 89‏]‏‏.‏ فسنة الله سبحانه وتعالى واحدة في المكذبين لرسله، المستكبرين عن عبادته هو لهم بالمرصاد، وهذه الآية تفيد التهديد والوعيد لمن حاول، أو لمن استكبر عن عبادة الله، أو كذب خبره‏.‏

{‏فَأَمَّا الإِنسَانُ إِذَا مَا ابْتَلاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ كَلاَّ بَل لاَّ تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ وَلا تَحَاضُّونَ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ وَتَأْكُلُونَ التُّرَاثَ أَكْلاً لَّمًّا وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا‏}‏‏.‏

ثم قال عز وجل‏:‏ ‏{‏فَأَمَّا الإِنسَانُ إِذَا مَا ابْتَلاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ‏}‏ الابتلاء من الله عز وجل يكون بالخير وبالشر كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَنَبْلُوكُم بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏ 35‏]‏‏.‏ فيُبتلى الإنسان بالخير ليبلوه الله عز وجل أيشكر أم يكفر، ويبتلى بالشر ليبلوه أيصبر أم يفجر، وأحوال الإنسان دائرة بين خير وشر، بين خير يلائمه ويسره، وبين شر لا يلائمه ولا يسره، وكله ابتلاء من الله، والإنسان بطبيعته الإنسانية المبنية على الظلم والجهل إذا ابتلاه ربه فأكرمه ونعمه يقول ‏{‏رَبِّي أَكْرَمَنِ‏}‏ يعني أنني أهل للإكرام ولا يعترف بفضل الله عز وجل، وهذا كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِندِي‏}‏ ‏[‏القصص‏:‏ 78‏]‏‏.‏ لما ذكر بنعمة الله عليه قال‏:‏ ‏{‏إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِندِي‏}‏ ولم يعترف بفضل الله، وما أكثر الناس الذين هذه حالهم إذا أكرمهم الله عز وجل ونعمهم، قالوا‏:‏ هذا إكرام من الله لنا؛ لأننا أهل لذلك، ولو أن الإنسان قال‏:‏ إن الله أكرمني بكذا اعترفًا بفضله وتحدثًا بنعمته لم يكن عليه في ذلك بأس، لكن إذا قال‏:‏ أكرمني، يعني أنني أهل للإكرام، كما يقول مثلًا كبير القوم إذا نزل ضيفًا على أحدهم قال‏:‏ أكرمني فلان؛ لأنني أهل لذلك‏.‏ ‏{‏وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ‏}‏ يعني ضيق عليه الرزق ‏{‏فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ‏}‏ يعني يقول إن الله تعالى ظلمني فأهانني ولم يرزقني كما رزق فلانًا، ولم يكرمني كما أكرم فلانًا، فصار عند الرخاء لا يشكر، يعجب بنفسه ويقول هذا حق لي، وعند الشدة لا يصبر بل يعترض على ربه ويقول ‏{‏رَبِّي أَهَانَنِ‏}‏ وهذا حال الإنسان باعتباره إنسانًا، أما المؤمن فليس كذلك، المؤمن إذا أكرمه الله ونعّمه شكر ربه على ذلك، ورأى أن هذا فضل من الله عز وجل وإحسان، وليس من باب الإكرام الذي يقدم لصاحبه على أنه مستحق، وإذا ابتلاه الله عز وجل وقدر عليه رزقه صبر واحتسب، وقال هذا بذنبي، والرب عز وجل لم يهني ولم يظلمني، فيكون صابرًا عند البلاء، شاكرًا عند الرخاء، وفي الايتين إشارة إلى أنه يجب على الإنسان أن يتبصر فيقول مثلًا‏:‏ لماذا أعطاني الله المال‏؟‏ ماذا يريد مني‏؟‏ يريد مني أن أشكر‏.‏ لماذا ابتلاني الله بالفقر، بالمرض وما أشبه ذلك‏؟‏ يريد مني أن أصبر‏.‏ فليكن محاسبًا لنفسه حتى لا يكون مثل حال الإنسان المبنية على الجهل والظلم ولهذا قال تعالى‏:‏ ‏{‏كَلاَّ‏}‏ يعني لم يعطك ما أعطاك إكرامًا لك لأنك مستحق ولكنه تفضل منه، ولم يهنك حين قدر عليك رزقه، بل هذا مقتضى حكمته وعدله‏.‏ ثم قال تعالى‏:‏ ‏{‏بَل لاَّ تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ‏}‏ يعني أنتم إذا أكرمكم الله عز وجل بالنعم لا تعطفون على المستحقين للإكرام وهم اليتامى، فاليتيم هنا اسم جنس، ليس المراد يتيمًا واحدًا بل جنس اليتامى، واليتيم قال العلماء‏:‏ هو الذي مات أبوه قبل بلوغه من ذكر أو أنثى، وأما من ماتت أمه فليس بيتيم، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏الْيَتِيمَ‏}‏ يشمل الفقير من اليتامى، والغني من اليتامى لأنه ينبغي الإحسان إليه وإكرامه لأنه انكسر قلبه بفقد أبيه ومن يقوم بمصالحه، فأوصى الله تعالى به حتى يزول هذا الكسر الذي أصابه‏.‏ ‏{‏وَلا تَحَاضُّونَ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ‏}‏ يعني لا يحض بعضكم بعضًا على أن يطعم المسكين، وإذا كان لا يحض غيره فهو أيضًا لا يفعله بنفسه، فهو لا يطعم المسكين ولا يحض على طعام المسكين، وفي هذا إشارة إلى أنه ينبغي لنا أن نكرم الأيتام، وأن يحض بعضنا بعضًا على إطعام المساكين؛ لأنهم في حاجة، والله تعالى في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه‏.‏ ‏{‏وَتَأْكُلُونَ التُّرَاثَ أَكْلاً لَّمًّا‏}‏ ‏{‏التُّرَاثَ‏}‏ ما يورثه الله العبد من المال، سواء ورثه عن ميت، أو باع واشترى وكسب، أو خرج إلى البر وأتى بما يأتي به من عشب وحطب وغير ذلك، فالتراث ما يرثه الإنسان، أو ما يورثه الله الإنسان من المال فإن بني آدم يأكلونه أكلًا لما، وأما المال فقال‏:‏ ‏{‏وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا‏}‏ أي عظيمًا، وهذا هو طبيعة الإنسان، لكن الإيمان له مؤثراته قد يكون الإنسان بإيمانه لا يهتم بالمال وإن جاءه شكر الله عليه، وأدى ما يجب وإن ذهب لا يهتم به، لكن طبيعة الإنسان من حيث هو كما وصفه الله عز وجل في هاتين الايتين‏.‏

{‏كَلاَّ إِذَا دُكَّتِ الأَرْضُ دَكًّا دَكًّا وَجَاء رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الإِنسَانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى يَقُولُ يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي فَيَوْمَئِذٍ لاَّ يُعَذِّبُ عَذَابَهُ أَحَدٌ وَلا يُوثِقُ وَثَاقَهُ أَحَدٌ يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَّرْضِيَّةً فَادْخُلِي فِي عِبَادِي وَادْخُلِي جَنَّتِي‏}‏‏.‏

{‏كَلاَّ إِذَا دُكَّتِ الأَرْضُ دَكًّا دَكًّا وَجَاء رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الإِنسَانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى‏}‏ يذكر الله سبحانه وتعالى الناس بيوم القيامة ‏{‏إِذَا دُكَّتِ الأَرْضُ دَكًّا دَكًّا‏}‏ حتى لا ترى فيها عوجًا ولا أمتًا، تُدك الجبال، ولا بناء، ولا أشجار، تمد الأرض كمد الأديم، يكون الناس عليها في مكان واحد يُسمعهم الداعي وينفذهم البصر في هذا اليوم ‏{‏يَتَذَكَّرُ الإِنسَانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى يَقُولُ يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي‏}‏ ولكن قد فات الأوان، لأننا في الدنيا في مجال العمل في زمن المهلة يمكن للإنسان أن يكتسب لمستقره، كما قال مؤمن آل فرعون ‏{‏يَا قَوْمِ إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَإِنَّ الآخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ‏}‏ ‏[‏غافر‏:‏ 39‏]‏‏.‏ متاع يتمتع به الإنسان كما يتمتع المسافر بمتاع السفر حتى ينتهي سفره، فهكذا الدنيا، واعتبر ما يستقبل بما مضى، كل ما مضى كأنه ساعة من نهار، كأننا الان مخلوقون، فكذلك ما يستقبل سوف يمر بنا سريعًا ويمضي جميعًا، وينتهي السفر إلى مكان آخر ليس مستقرًّا، إلى الأجداث إلى القبور ومع هذا فإنها ليست محل استقرار لقول الله تعالى‏:‏ ‏{‏أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ‏}‏ ‏[‏التكاثر‏:‏ 1، 2‏]‏‏.‏ سمع أعرابي رجلًا يقرأ هذه الآية فقال‏:‏ ‏(‏والله ما الزائر بمقيم ولابد من مفارقة لهذا المكان‏)‏، وهذا استنباط قوي وفهم جيد يؤيده الآيات الكثيرة الصريحة في ذلك كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ لَمَيِّتُونَ ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تُبْعَثُونَ‏}‏ ‏[‏المؤمنون‏:‏ 15، 16‏]‏‏.‏ وذكر الله سبحانه وتعالى ما يكون في هذا اليوم فقال‏:‏ ‏{‏وَجَاء رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا‏}‏ أي صفًّا بعد صف، ‏{‏وَجَاء رَبُّكَ‏}‏ هذا المجيء هو مجيئه - عز وجل - لأن الفعل أسند إلى الله، وكل فعل يسند إلى الله فهو قائم به لا بغيره، هذه القاعدة في اللغة العربية، والقاعدة في أسماء الله وصفاته كل ما أسنده الله إلى نفسه فهو له نفسه لا لغيره، وعلى هذا فالذي يأتي هو الله عز وجل، وليس كما حرفه أهل التعطيل حيث قالوا إنه جاء أمر الله، فإن هذا إخراج للكلام عن ظاهره بلا دليل، فنحن من عقيدتنا أن نجري كلام الله تعالى، ورسوله - صلى الله عليه وسلّم - على ظاهره وأن لا نحرف فيه‏.‏ ونقول‏:‏ إن الله تعالى يجيء يوم القيامة هو نفسه، ولكن كيف هذا المجيء‏؟‏ هذا هو الذي لا علم لنا به لا ندري كيف يجيء‏؟‏ والسؤال عن مثل هذا بدعة كما قال الإمام مالك - رحمه الله - حين سُئل عن قوله تعالى‏:‏ ‏{‏الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى‏}‏ ‏[‏طه‏:‏ 5‏]‏‏.‏ فأطرق مالك برأسه حتى علاه الرحضاء - يعني العرق - لشدة هذا السؤال على قلبه، لأنه سؤال عظيم سؤال متنطع، سؤال متعنت أو مبتدع يريد السوء، ثم رفع رأسه وقال‏:‏ ‏(‏الاستواء غير مجهول، والكيف غير معقول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة‏)‏، الشاهد الكلمة الأخيرة - السؤال عنه بدعة - واعتبر هذا في جميع صفات الله فلو سألنا سائل قال‏:‏ إن الله يقول‏:‏ ‏{‏لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ‏}‏ ‏[‏ص 75‏]‏‏.‏ يعني آدم، كيف خلقه بيده‏؟‏ نقول‏:‏ هذا السؤال بدعة، قال‏:‏ أنا أريد العلم لا أحب أن يخفى علي شيء من صفات ربي فأريد أن أعلم كيف خلقه‏؟‏ نقول‏:‏ نحن نسألك أسئلة سهلة هل أنت أحرص على العلم من الصحابة رضي الله عنهم‏؟‏ إما أن يقول نعم، وإما أن يقول لا، والمتوقع أن يقول لا‏.‏ هل الذي وجهت إليه السؤال أعلم بكيفية صفات الله عز وجل أم الرسول - صلى الله عليه وآله وسلم ـ‏؟‏ سيقول‏:‏ الرسول، إذًا الصحابة أحرص منك على العلم والمسؤول الذي يوجه إليه السؤال أعلم من الذي تسأله ومع ذلك ما سألوا؛ لأنهم يلتزمون الأدب مع الله عز وجل، ويقولون بقلوبهم وربما بألسنتهم إن الله أجل وأعظم من أن تحيط أفهامنا وعقولنا بكيفيات صفاته، والله عز وجل يقول في كتابه في الأمور المعقولة ‏{‏وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا‏}‏ ‏[‏طه‏:‏ 110‏]‏‏.‏ وفي الأمور المحسوسة‏:‏ ‏{‏لاَّ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 103‏]‏‏.‏ فنقول‏:‏ يا أخي إلزم الأدب، لا تسأل كيف خلق الله آدم بيده‏؟‏ فإن هذا السؤال بدعة، وكذلك بقية الصفات لو سأل كيف عين الله عز وجل‏؟‏ قلنا له‏:‏ هذا بدعة، لو سأل كيف يد الله عز وجل قلنا‏:‏ هذا بدعة وعليك أن تلزم الأدب، وأن لا تسأل عن كيفية صفات الله عز وجل‏.‏ لما قال هنا في الآية الكريمة ‏{‏وَجَاء رَبُّكَ‏}‏ وسأل كيف يجيء‏؟‏ نقول‏:‏ هذا بدعة - هذه القاعدة التزموها - وكل إنسان يسأل عن كيفية صفات الله فهو مبتدع متنطع، سائل عما لا يمكن الوصول إليه، فموقفنا من مثل هذه الآية ‏{‏وَجَاء رَبُّكَ‏}‏ أن نؤمن بأن الله يجيء لكن على أي كيفية الله‏؟‏ الله أعلم‏.‏ والدليل قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ‏}‏ ‏[‏الشورى‏:‏ 11‏]‏‏.‏ فنحن نعلم النفي ولا نعلم الإثبات، يعني نعلم أنه لا يمكن أن يأتي على كيفية إتيان البشر، ولكننا لا نثبت كيفيته وهذا هو الواجب علينا، وقوله‏:‏ ‏{‏المَلَكُ‏}‏ ‏(‏الـ‏)‏ هنا للعموم يعني جميع الملائكة يأتون ينزلون ويحيطون بالخلق، تنزل ملائكة السماء الدنيا، ثم ملائكة السماء الثانية وهلم جرا يحيطون بالخلق إظهارًا للعظمة، وإلا فإن الخلق لا يمكن أن يفروا يمينًا ولا شمالًا لكن إظهارًا لعظمة الله وتهويلًا لهذا اليوم العظيم، تنزل الملائكة يحيطون بالخلق، وهذا اليوم يوم مشهود يشهده الملائكة والإنس والجن والحشرات وكل شيء ‏{‏وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ‏}‏ ‏[‏التكوير‏:‏ 5‏]‏‏.‏ فهو يوم عظيم لا ندركه الان ولا نتصوره لأنه أعظم مما نتصور‏.‏ الأمر الثالث مما به الإنذار في هذا اليوم بعد أن عرفنا الأمر الأول وهو مجيء الله، ثم صفوف الملائكة قال‏:‏ ‏{‏وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ‏}‏ ‏{‏جِيءَ يَوْمَئِذٍ‏}‏ ولم يذكر الجائي لكن قد دلت السنة أنه يؤتى بالنار تقاد بسبعين ألف زمام كل زمام منها يقوده سبعون ألف ملك، وما أدراك ما قوة الملائكة‏؟‏ قوة ليست كقوة البشر، ولا كقوة الجن بل هي أعظم وأعظم بكثير، ولهذا لما قال عفريت من الجن لسليمان ‏{‏أَنَا آتِيكَ بِهِ‏}‏ بعرش بلقيس ‏{‏قَبْلَ أَن تَقُومَ مِن مَّقَامِكَ وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ قَالَ الَّذِي عِندَهُ عِلْمٌ مِّنَ الْكِتَابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَن يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرًّا عِندَهُ‏}‏ ‏[‏النمل‏:‏ 39، 40‏]‏‏.‏ قال العلماء‏:‏ لأن الرجل هذا دعا الله، فحملته الملائكة من اليمن فجاءت به إلى سليمان في الشام، فقوة الملائكة عظيمة، وهم يجرون هذه النار بسبعين ألف زمام، كل زمام يجره سبعون ألف ملك، إذًا هي عظيمة، هذه النار إذا رأت أهلها من مكان بعيد، سمعوا لها تغيظًا وزفيرًا، وليست كزفير الطائرات أو المعدات، زفير تنخلع منه القلوب، ‏{‏كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ‏}‏ ‏[‏الملك‏:‏ 8‏]‏‏.‏ وقال الله عز وجل‏:‏ ‏{‏تَكَادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ‏}‏ تكاد تقطع من شدة الغيظ على أهلها، فلهذا أنذرنا الله تعالى منها فهذه ثلاثة أمور كلها إنذار‏:‏ مجيء الرب جل جلاله، صفوف الملائكة، الثالث‏:‏ الإتيان بجهنم‏.‏ ‏{‏يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الإِنسَانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى‏}‏ يعني إذا جاء الله في يوم القيامة، وجاء الملك الملائكة صفوفًا صفوفًا، وأحاطوا بالخلق، وحصلت الأهوال والأفزاع يتذكر الإنسان، يتذكر أنه وعد بهذا اليوم، وأنه أعلم به من قبل الرسل عليهم الصلاة والسلام، وأنذروا وخوفوا، ولكن من حقت عليه كلمة العذاب فإنه لا يؤمن ولو جاءته كل آية، حينئذ يتذكر لكن يقول الله عز وجل ‏{‏وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى‏}‏ أين يكون له الذكرى في هذا اليوم الذي رأى فيه ما أخبر عنه يقينًا‏؟‏‏!‏ وأنى له الاتعاظ فات الأوان‏؟‏‏!‏ والإيمان عن مشاهدة لا ينفع لأن كل إنسان يؤمن بما شاهد، الإيمان النافع هو الإيمان بالغيب ‏{‏الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 3‏]‏‏.‏ فيصدق بما أخبرت به الرسل عن الله عز وجل وعن اليوم الاخر، في ذلك اليوم يتذكر الإنسان ولكن قال الله عز وجل‏:‏ ‏{‏أَنَّى لَهُ الذِّكْرَى‏}‏ أي بعيد أن ينتفع بهذه الذكرى التي حصلت منه حين شاهد الحق يقول الإنسان‏:‏ ‏{‏يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي‏}‏ يتمنى أنه قدم لحياته وما هي حياته‏؟‏ أهي حياة الدنيا‏؟‏ لا والله، الحياة الدنيا انتهت وقضت، وليست الحياة الدنيا حياة في الواقع، الواقع أنها هموم وأكدار، كل صفو يعقبه كدر، كل عافية يتبعها مرض، كل اجتماع يعقبه تفرق، انظروا ما حصل أين الاباء‏؟‏ أين الإخوان‏؟‏ أين الأبناء‏؟‏ أين الأزواج‏؟‏ هل هذه حياة‏؟‏ ولهذا قال بعض الشعراء الحكماء‏:‏ لا طيب للعيش مادامت منغصة لذاته بادكار الموت والهرم كل إنسان يتذكر أن مآله أحد أمرين‏:‏ إما الموت، وإما الهرم، نحن نعرف أناسًا كانوا شبابًا في عنفوان الشباب عُمّروا لكن رجعوا إلى أرذل العمر، يَرقُ لهم الإنسان إذا رآهم في حالة بؤس، حتى وإن كان عندهم من الأموال ما عندهم، وعندهم من الأهل ما عندهم، لكنهم في حالة بؤس، وهكذا كل نسان إما أن يموت مبكرًا، وإما أن يُعمّر فيرد إلى أرذل العمر فهل هذه حياة‏؟‏ الحياة هي ما بينه الله عز وجل‏:‏ ‏{‏وَإِنَّ الدَّارَ الآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ‏}‏ يعني لهي الحياة التامة ‏{‏لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ‏}‏ ‏[‏العنكبوت‏:‏ 64‏]‏‏.‏ يقول هذا‏:‏ ‏{‏يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي‏}‏ يتمني لكن لا يحصل ‏{‏أَنَّى لَهُ الذِّكْرَى‏}‏‏.‏ قال تعالى‏:‏ ‏{‏فَيَوْمَئِذٍ لاَّ يُعَذِّبُ عَذَابَهُ أَحَدٌ وَلا يُوثِقُ وَثَاقَهُ أَحَدٌ‏}‏ فيها قراءتان‏:‏ الأولى ‏{‏لا يعذِّب عذابه أحد ولا يوثِقُ وَثاقه أحد‏}‏ أي لا يعذب عذاب الله أحد، بل عذاب الله أشد، ولا يوثق وثاق الله أحد، بل هو أشد‏.‏ القراءة الثانية‏:‏ ‏{‏لا يعذَّب عذابه أحد ولا يُوثَق وثاقه أحد‏}‏ يعني في هذا اليوم لا أحد يعذب عذاب هذا الرجل، ولا أحد يوثق وثاقه، ومعلوم أن هذا الكافر لا يعذب أحد عذابه في ذلك اليوم، لأنه يُلقى على أهل النار في الموقف العطش الشديد، فينظرون إلى النار كأنها السراب، والسراب هو ما يشاهده الإنسان في أيام الصيف في شدة الحر من البقاع حتى يخيل إليه أنه الماء، ينظرون إلى النار كأنها سراب وهم عطاش، فيتهافتون عليها يذهبون إليها سراعًا يريدون أي شيء‏؟‏ يريدون الشرب، فإذا جاؤوها فتحت أبوابها وقال لهم خزنتها‏:‏ ‏{‏أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِّنكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِ رَبِّكُمْ وَيُنذِرُونَكُمْ لِقَاء يَوْمِكُمْ هَذَا‏}‏ ‏[‏الزمر‏:‏ 71‏]‏‏.‏ قد قامت عليكم الحجة فيوبخونهم قبل أن يدخلوا النار، والتوبيخ عذاب قلبي وألم نفسي قبل أن يذوقوا ألم النار، وفي النار يوبخهم الجبار عز وجل توبيخًا أعظم من هذا‏.‏ ويقولون ‏{‏رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا وَكُنَّا قَوْمًا ضَالِّينَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ‏}‏ قال الله تعالى وهو أرحم الراحمين‏:‏ ‏{‏اخْسَؤُوا فِيهَا وَلا تُكَلِّمُونِ‏}‏ ‏[‏المؤمنون‏:‏ 106 - 108‏]‏‏.‏ أبلغ من هذا الإذلال ‏{‏اخْسَؤُوا فِيهَا وَلا تُكَلِّمُونِ‏}‏ يقوله أرحم الراحمين، فمن يرحمهم بعد الرحمن‏؟‏‏!‏ لا راحم لهم، وقد أخبر النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم بأن أهون أهل النار عذابًا من عليه نعلان يغلي منهما دماغه، ولا يرى أن أحدًا أشد منه عذابًا يرى أنه أشد الناس عذابًا وهو أهونهم عذابًا، وعليه نعلان يغلي منهما الدماغ، النعلان في أسفل البدن والدماغ في أعلاه، فإذا كان أعلى البدن يغلي من أسفله، فالوسط من باب أشد - أجارنا الله وإياكم من النار - ‏{‏فَيَوْمَئِذٍ لاَّ يُعَذِّبُ عَذَابَهُ أَحَدٌ وَلا يُوثِقُ وَثَاقَهُ أَحَدٌ‏}‏ لأنهم - والعياذ بالله - يوثقون ‏{‏ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعًا فَاسْلُكُوهُ‏}‏ ‏[‏الحاقة‏:‏ 32‏]‏‏.‏ أدخلوه في هذه السلسلة تغل أيديهم - نسأل الله العافية - ولا أحد يتصور الان ما هم فيه من البؤس والشقاء والعذاب‏.‏ إذن على الإنسان أن يستعد قبل أن ‏{‏يَقُولُ يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي فَيَوْمَئِذٍ لاَّ يُعَذِّبُ عَذَابَهُ أَحَدٌ وَلا يُوثِقُ وَثَاقَهُ أَحَدٌ‏}‏‏.‏ ثم ختم الله تعالى هذه السورة بما يبهج القلب ويشرح الصدر فقال‏:‏ ‏{‏يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَّرْضِيَّةً‏}‏ ‏{‏ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ‏}‏ يقال هذا القول للإنسان عند النزع في آخر لحظة من الدنيا، يقال لروحه‏:‏ اخرجي أيتها النفس المطمئنة، اخرجي إلى رحمة من الله ورضوان، فتستبشر وتفرح، ويسهل خروجها من البدن، لأنها بشرت بما هو أنعم مما في الدنيا كلها، قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم‏:‏ ‏(‏لموضع سوط في الجنة خير من الدنيا وما فيها‏)‏، سوط الإنسان العصا القصير، موضع السوط في الجنة خير من الدنيا وما فيها، وليست دنياك أنت، بل الدنيا من أولها إلى آخرها، بما فيها من النعيم، والملك، والرفاهية وغيرها، موضع سوط خير من الدنيا وما فيها، فكيف بمن ينظر في ملكه مسيرة ألفي عام، ألفي سنة يرى أقصاه كما يرى أدناه، نعيم لا يمكن أن ندركه بنفوسنا ولا بتصورنا ‏{‏فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ‏}‏ ‏[‏السجدة‏:‏ 17‏]‏‏.‏ ‏{‏النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ‏}‏ يعني المؤمنة الامنة، لأنك لا تجد نفسًا أطمن من نفس المؤمن أبدًا، المؤمن نفسه طيبة مطمئنة، ولهذا تعجب الرسول - صلى الله عليه وسلّم - من المؤمن قال‏:‏ ‏(‏عجبًا لأمر المؤمن إن أمره كله خير، إن أصابته ضَّراء صبر فكان خيرًا له، وإن أصابته سَّراء شكر فكان خيرًا له‏)‏، مطمئن راض بقضاء الله وقدره، لا يسخط عند المصائب، ولا يبطر عند النعم، بل هو شاكر عند النعم، صابر عند البلاء، فتجده مطمئنًا، لكن الكافر أو ضعيف الإيمان لا يطمئن، إذا أصابه البلاء جزع وسخط، ورأى أنه مظلوم من قبل الله - والعياذ بالله - حتى إن بعضهم ينتحر ولا يصبر، ولا يطمئن، بل يكون دائمًا في قلق، ينظر إلى نفسه وإذا هو قليل المال، قليل العيال ليس عنده زوجة، ليس له قوم يحمونه، فيقول‏:‏ أنا لست في نعمة، لأن فلانًا عنده مال، عنده زوجات، عنده أولاد، عنده قبيلة تحميه، أنا ليس عندي، فلا يرى لله عليه نعمة، لأنه ضعيف الإيمان فليس بمطمئن، دائمًا في قلق، ولهذا نجد الناس الان يذهبون إلى كل مكان ليرفهوا عن أنفسهم ليزيلوا عنها الألم والتعب، لكن لايزيل ذلك حقًا إلا الإيمان، الإيمان الحقيقي الذي يؤدي إلى الطمأنينة، فالنفس المطمئنة هي المؤمنة، مؤمنة في الدنيا، آمنة من عذاب الله يوم القيامة، قال بعض السلف كلمة عجيبة قال‏:‏ لو يعلم الملوك وأبناء الملوك ما نحن فيه لجالدونا عليه بالسيوف، هل تجدون أنعم في الدنيا من الملوك وأبنائهم، لا يوجد أحد أنعم منهم في الظاهر يعني نعومة الجسد، لكن قلوبهم ليست كقلوب المؤمنين، المؤمن الذي ليس عليه إلا ثوب مرقع، وكوخ لا يحميه من المطر، ولا من الحر، ولكنه مؤمن، دنياه ونعيمه في الدنيا أفضل من الملوك وأبناء الملوك، لأن قلبه مستنير بنور الله، بنور الإيمان، وها هو شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - حبس وأوذي في الله عز وجل، فلما أدخل الحبس وأغلقوا عليه الباب قال رحمه الله‏:‏ ‏{‏فَضُرِبَ بَيْنَهُم بِسُورٍ لَّهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِن قِبَلِهِ الْعَذَابُ‏}‏ ‏[‏الحديد‏:‏ 13‏]‏‏.‏ يقول هذا تحدثًا بنعمة الله لا افتخارًا ثم قال‏:‏ ‏(‏ما يصنع أعدائي بي - أي شيء يصنعون - إن جنتي في صدري - أي الإيمان والعلم واليقين - وإن حبسي خلوة، ونفيي - إن نفوه من البلد - سياحة وقتلي شهادة‏)‏ هذا هو اليقين، هذه الطمأنينة، والإنسان لو دخل الحبس كان يفكر ما مستقبلي، ما مستقبل أولادي، وأهلي، وقومي، وشيخ الإسلام - رحمه الله - يقول‏:‏ ‏(‏جنتي في صدري‏)‏ وصدق‏.‏ ولعل هذا هو السر في قوله تبارك وتعالى‏:‏ ‏{‏لا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلاَّ الْمَوْتَةَ الأُولَى‏}‏ ‏[‏الدخان‏:‏ 56‏]‏‏.‏ يعني في الجنة لا يذوقون فيها الموت إلا الموتة الأولى، ومعلوم أن الجنة لا موت فها لا أولى ولا ثانية، لكن لما كان نعيم القلب ممتدًا من الدنيا إلى دخول الجنة صارت كأن الدنيا والاخرة كلها جنة وليس فيها إلا موتة واحدة‏.‏ ‏{‏رَاضِيَةً‏}‏ بما أعطاك الله من النعيم ‏{‏مَّرْضِيَّةً‏}‏ عند الله عز وجل كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏رَّضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ‏}‏ ‏[‏المجادلة‏:‏ 22‏]‏‏.‏ ‏{‏فَادْخُلِي فِي عِبَادِي‏}‏ أي‏:‏ ادخلي في عبادي الصالحين، من جملتهم، لأن الصالحين من عباد الله الذين أنعم الله عليهم، الذين هم خير طبقات البشر، والبشر طبقاته ثلاث‏:‏ منعم عليهم، ومغضوب عليهم، وضالون، وكل هذه الطبقات مذكورة في سورة الفاتحة ‏{‏اهدِنَا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنعَمتَ عَلَيهِمْ غَيرِ المَغضُوبِ عَلَيهِمْ وَلاَ الضَّالِّينَ‏}‏‏.‏ الطبقة الأولى‏:‏ الذين أنعم الله عليهم وهم‏:‏ النبيون، والصديقون، والشهداء، والصالحون‏.‏ والثانية‏:‏ ‏{‏المَغضُوبِ عَلَيهِمْ‏}‏ وهم اليهود وأشباه اليهود من كل من علم الحق وخالفه، فكل من علم الحق وخالفه ففيه شبه من اليهود، كما قال سفيان بن عيينة - رحمه الله - ‏:‏ من فسد من علمائنا ففيه شبه من اليهود‏.‏ والثالثة‏:‏ ‏{‏الضالون‏}‏ وهم النصارى الذين جهلوا الحق، أرادوه لكن عموا عنه، ما اهتدوا إليه، قال ابن عيينة‏:‏ وكل من فسد من عبّادنا ففيه شبه من النصارى؛ لأن العبّاد يريدون الخير يريدون العبادة لكن لا علم عندهم، فهم ضالون‏.‏ ‏{‏ادْخُلِي فِي عِبَادِي‏}‏ أي الطبقة الأولى المنعم عليهم‏.‏ ‏{‏وَادْخُلِي جَنَّتِي‏}‏ أي جنته التي أعدها الله عز وجل لأوليائه، أضافها الله إلى نفسه تشريفًا لها وتعظيمًا، وإعلامًا للخلق بعنايته بها جل وعلا، والله سبحانه وتعالى قد خلقها خلقًا غير خلق الدنيا، خلق لنا في الدنيا فاكهة، ونخل، ورمان، وفي الجنة فاكهة، ونخل، ورمان ولكن ما في الجنة ليس كالذي في الدنيا أبدًا، لأن الله يقول‏:‏ ‏{‏فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ‏}‏ ‏[‏السجدة‏:‏ 17‏]‏‏.‏ ولو كان ما في الجنة كالذي في الدنيا لكنا نعلم، إذًا هو مثله في الاسم، لكن ليس مثله في الحقيقة ولا في الكيفية ولهذا قال‏:‏ ‏{‏ادْخُلِي جَنَّتِي‏}‏ فأضافها الله إلى نفسه للدلالة على شرفها وعناية الله بها، وهذا يوجب للإنسان أن يرغب فيها غاية الرغبة، كما أنه يرغب في بيوت الله التي هي المساجد، لأن الله أضافها إلى نفسه، فكذلك يرغب في هذه الدار التي أضافها الله إلى نفسه، والأمر يسير، قال رجل للرسول - صلى الله عليه وسلّم - ‏:‏ دلني على عمل يدخلني الجنة ويباعدني من النار، فقال‏:‏ لقد سألت عن عظيم، وهو عظيم، ‏{‏فَمَن زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 185‏]‏‏.‏ وإنه ليسير على من يسره الله عليه، تعبد الله لا تشرك به شيئًا، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وذكر الحديث، فالدين والحمد لله يسير وسهل، لكن النفوس الأمّارة بالسوء، والشهوات، والشبهات، هي التي تحول بيننا وبين ديننا، ربنا آتنا في الدنيا حسنة، وفي الاخرة حسنة، وقنا عذاب النار، ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا، وهب لنا من لدنك رحمة، إنك أنت الوهاب‏.‏